بيروقراطية بفساد

ربما يوحي العنوان بالحديث عن وجبة من صنفين من الطعام، كـأن تقول على سبيل المثال (رز بالبازلاء)، ولكنها طبخة المؤسسات السورية بامتياز، وتتسع الحالة لتصير أكبر من ظاهرة يمارسها بعض الموظفين في أزمة سمحت للكثيرين أن يصطادوا حصصهم، تارة باسم المشاكل الكثيرة، وتارة بانشغالاتهم الوطنية.

لم تتغير أزمات المواطن، ولكنها تفاقمت، وهؤلاء كذلك لم يتغيروا، بل على العكس، زادت شراهتهم لأخذ المواطن إلى خانات أرزاقهم الوضيعة، وابتكروا لأجل منافعهم طرقاً جديدة، ولووا عنق الأزمة كي تتناسب مع نقائصهم.

ماذا يعني أن يبقى خط هاتف مواطن مقطوعاً ومعلقاً في الهواء لأكثر من أسبوع، وعندما يراجع مركز الهاتف لا يلقى أية ممانعة أو وجه عابس، ويأخذه التفاؤل بإصلاح هاتفه بكثرة الوجه المرحبة، وابتسامات الترحيب.

أدرك المواطن المغفل بعد مضي يومين أن القصة ليست توزيع ابتسامات ووجوه مرحبة، وأنه لم يفهم سر كثرتها، وشدة تهليلها، وبأنه لا يعدو أن يكون سوى صيد جديد، وهنا أراد المواطن أن يمارس قليلاً من الشدة في طلب حقه، ولكن الابتسامات أوقفت غضبه الشديد، والحجج التي ابتدأت تعلو بكلمات ناعمة: يا أستاذ والله الأعطال كثيرة، وضغط العمل كبير، والكادر قليل.

يعود المواطن بعد يومين، ويقرر بينه وبينه أن يستعين بمعارفه، ويلوّح في وجه مدير المركز باستعمالها، ولا يملك المدير من حيلة دائمة سوى كلمة واحدة تعيد المواطن إلى حالة أول يوم دخل فيه المركز متفائلاً: تكرم شواربك.

بعد ستة أيام بلغ الغضب ذروته، ومع رنة جوال مدير التركيبات في المقسم يبادر الأخير: خطك في التجربة، والمذكرة أحيلت إلى عمال التركيب، وفي صباح الغد ستقول صباح الخير عبر الأسلاك لزوجتك.

في اليوم التالي، المواطن من وظيفته يطلب الرقم من عامل المقسم، وبعد انتظار غير معهود يجيبه عامل المقسم خطك مفصول لأسباب إدارية.. يمسك المواطن رأسه من ألم حاد، ويهمس في داخله: نعم أنا المواطن المغفل.. لقد قالها لي أحد المراجعين: ادفع 200 ليرة للعامل وانس الطلبات والإدارات والمراجعات!.

قصة المواطن الذي استنتج بعد ثمانية أيام أنه مغفل ليست من وحي خيالي، فالقصة جرت معي، والمواطن المغفل هو أنا كاتب هذه الزاوية، والمركز المقصود هو مركز هاتف مدينة قطنا.. فما بالكم بمواطن عادي سيراجع هذا المركز؟! فكم من الابتسامات سيفهم أنها من أجله، ومن الوجوه أنها تضحك لقدومه، وكم من الصداع والندم سيلقى، ولكنه في النهاية سيصل إلى استنتاج الحكمة نفسها.

في بقية (المواطن).. دور المازوت الذي لم يصل، والغريب أن الصهريج يأتي في كل يوم، ومع ذلك لم تتغير الزحمة، والطابور نفسه يتكرر من بشر وسيارات، والانتهازيون يتكاثرون.. ففي ساعات الليل المتأخرة يمكنك مشاهدة سيارات التوزيع التي يقودها عامل محطة الوقود تفرغ حمولتها في خزانات من يدفع، وسعر الليتر في حال عقد اتفاقاً 23 ليرة، وعندما تنفخ من هول المفاجأة يهمس لك السائق وكأنه يفضح سراً: سوف يرتفع سعره هذا الأسبوع.

قسم الطوارئ الذي لا عمل له سوى مطاردة أعطال الكهرباء لا يرد على الرقم الأرضي الوحيد، وإذا ما رد يعدك العاملون بالقدوم مع الكهرباء بعد خمس دقائق، وبعد ساعة من الانتظار وطلب الخط الوحيد المشغول يتصل بك أحد الأصدقاء شامتاً، فعمال قسم الطوارئ يتناولون العشاء (شاورما) في محل لا يبعد عن عمله خمسين متراً.

ما يشعر المواطن في هذه الحالات من غبن أن الأعطال لا تأتي إلا بعد فترة التقنين التي تصل إلى ست ساعات في اليوم، وأضف إليها ستاً أخرى للأعطال.. النتيجة.. أليست بيروقراطية بفساد!؟