التوازن الدولي.. والسؤال الكردي
يُقال– على ذمة القائل- بأن الأكراد لم يخسروا حرباً بالجانب العسكري، بل كانوا على الأرجح يخسرون في السياسة. وعلى الرغم من بأس أبناء الجبال في الحروب، وبغض النظر عن دقة هذا القول من عدمه، فهو يتضمن العديد من الدلالات، أهمها: أن جانباً هاماً من المأساة الكردية يكمن في الاصطفافات الخاطئة لبعض قوى الحركة الكردية، الأمر الذي يفترض التحسب من الوقوع في اخطاء استراتيجية، في هذه المرحلة المفتوحة على احتمالات شتى.
بسطار.. وخرائط
منذ ما يقارب القرن، أي منذ أن رسم بسطار الرسملة جغرافيا العالم، ومنذ أن ارتسمت خرائط الشرق في العقل الامبريالي، لم تعد قضية الشعب الكردي قضية الحركة القومية الكردية وحدها، ولا حتى قضية الكرد وحدهم، بل باتت قضية كل الفضاء الجغرافي السياسي في شرق المتوسط، من ناحية تأثرها بشكل مباشر بالوضع الإقليمي وتأثيرها عليه، وتخضع لتجاذبات التوازن الدولي في هذه المرحلة أو تلك، ومآلاته في نهاية المطاف. وعليه فإن معرفة اتجاه تطورالأوضاع، ومعرفة القوى الصاعدة، ومشاريعها، وسياساتها، وطبيعتها، يجب ألا تغيب عن الذهن عند تحديد الأهداف والسياسات المتعلقة بهذه القضية، لا من القوى الكردية، ولا من القوى الأخرى في هذا الإقليم المضطرب، انطلاقاً من قاعدة وحدة المصير، الذي يعتبر معطىً تاريخياً ثابتاً، بات تجاهله، إما تعبيراً عن سذاجه سياسية، أو انخراطاً مفضوحاً في دائرة استدامة الحرائق في الجحيم الشرق متوسطي الراهن. وبعبارة أوضح يجب أن تخرج القضية الكردية من مستنقع التجاذبات القوموية: «هذا لي، وهذا لك» إلى مستوى آخر، إلى وعي يطابق متطلبات المرحلة التاريخية الراهنة وآفاقها: «هذا لنا كلنا»، الأمر الذي يفترض الاعتراف من القوى كلها بوجود شعب كردي له حقوق مثله مثل غيرة من شعوب المنطقة، بعد عقود من التهميش والإقصاء، ومن جهة أخرى منع توظيف هذا الحق كعامل تفتيت وصراع، مشتهى أمريكياً، عبر الاشتغال على الفوالق العرقية.
توازن.. ووزن!
يراهن العقل السياسي المهيمن في الوسط السياسي الكردي في المرحلة الراهنة على إمكانية الحصول على مستوى معين من حقوقه القومية، في ظل الانعطاف التاريخي الذي يمر به العالم، ومنه منطقة الشرق، والقضية الكردية ضمناً. لاشك أن مثل هذه القراءة تنطوي على شيء من الدقة، من حيث المبدأ، فلم يعد يوجد على جدول أعمال العلاقات الدولية ما هو مؤجل. كل القضايا هي الآن قيد البحث، بهذا المستوى أو ذاك، بما فيها تلك القضايا التي كانت شبه منسية على مدى عقود، كالقضية الكردية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الشعب الذي يعتبر جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي والجغرافي في المنطقة تعرض خلال قرن من الزمن إلى اضطهاد قومي تجسد بعدم الاعتراف بوجوده، مع تبعات ذلك كلها. وإن عدم حل قضيته حلاً ديمقراطياً عادلاً، أدى إلى بقاء إحدى بؤر التوتر في المنطقة، ليبقى السؤال هو: كيف ستنتهي التراجيديا الكردية كجزء من التراجيديا العامة في المنطقة.
إن التوازن الدولي الراهن الذي تجلى بصعود الدور الروسي والصيني ومعهم بقية بلدان مجموعة «بريكس»، يعني عملياً تراجع الدور الامريكي، ويعني أن الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة القادرة على تحقيق أجنداتها كما تريد. وبالتالي فإن التعويل عليها حتى من الناحية البراغماتية، هو مغامرة غير محمودة العواقب، إذا ما كان البعض يحسن النية بها، ناهيك عن أن مثل هذا التعويل يضع القضية الكردية في غير موقعها الطبيعي. فمن المعروف وحسب التجربة الكردية نفسها بأن الولايات المتحدة نظرت إلى هذه القضية على الدوام كأداة ابتزاز لقوى إقليمية ودولية، وخذلت الشعب الكردي في المنعطفات الحاسمة، مراراً وتكراراً.
بين الإيهام والواقع
ضج الإعلام الأمريكي منذ سنوات، وفي إطار التأسيس لسياسة ضرب الكل بالكل، بإطلاق المواقف الرسمية وشبه الرسمية، التي تدفع القوى المختلفة، ومنها بعض القوى الكردية إلى رفع شعارات الحد الأقصى، عبر الاشتغال على ثقافة الظلم التاريخي، الذي لحق بهذا المكون أو ذاك، وإيهام مختلف القوى بالدعم الأمريكي، الذي سرعان ما يتوقف عندما ترى واشنطن مصلحتها في موقف آخر، حسب وزن كل قوة ودورها، ليس المحلي فقط، إنما دورها في الصراع الدولي أيضاً. هذه المعادلة تتطلب حساب وزن القضية الكردية في الصراع الدولي الراهن، أمام الأوزان الإقليمية الأخرى، كالوزن التركي مثلاً، عند رفع سقف الأهداف، لاسيما وأن تحريك الملف الكردي في بلد ما يؤدي تلقائياً إلى تداعيات في البلدان الثلاثة الأخرى. وعلى سبيل المثال، فإن الصمت الأمريكي تجاه ما يحدث بحق أكراد تركيا في الآونة الأخيرة، هو تأكيد على أن الاعتبار الكردي هو اعتبار عابر في الأجندة الأمريكية، أضف إلى ذلك التمدد التركي الإقليمي مؤخراً: «التدخل المباشر في العراق- بناء قاعدة في قطر» الذي ما كان له ليجري إلا بضوء أخضر أمريكي، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى على أن الدور التركي ثابت في الاستراتيجية الأمريكية، وفي صراعها مع القوى الدولية الصاعدة، وأن الولايات المتحدة في سياق صراعها الدولي، لا يمكنها الاستغناء عن الخدمات التركية. وعندما يكون الأمر كذلك، فماذا عن مصير الكرد؟ أم أن الأوهام قادت البعض للاعتقاد بأن الدولة التركية بتركيبتها السياسية الراهنة يمكن أن تتفهم حقوق الشعب الكردي، وهي التي قادتها سياساتها إلى توتير العلاقة مع الجوار الإقليمي كله، بدون استثناء.
غير مسموح..!
استناداً إلى هذا، فإنه من غير المسموح به من وجهة نظر تخديم القضية الكردية وحقوق الشعب الكردي ارتكاب أخطاء استراتيجية، بناءً إلى أوهام استمرار «الدعم» الأمريكي إلى النهاية. فما تقدمه واشنطن يمكن أن تطيح به أنقرة ببساطة في إطار سياسة تبادل الأدوار فيما بينهما، وهي السياسة التي باتت الإدارة الأمريكية تلجأ إليها في السنوات الأخيرة، مع حلفائها في سياق تراجعها الاضطراري، وما يستوجبه من تنظيم انسحابها من المنطقة.