هناك من لا يريد الحوار..!

هناك من لا يريد الحوار..!

يرفض الحوار، حتى الآن، جزء لا بأس به مما يسمى قوى المعارضة. يرفضه أيضاً جزء من الحركة الشعبية، وفوق ذلك جزء من النظام، ويبرر كل منهم موقفه بأسباب تبدو للوهلة الأولى منطقية، وما إن نخضع هذه الأسباب لشيء من التفكير والتدقيق حتى تذوب جميعها ليظهر تحتها أحد أمرين: انعدام الخبرة السياسية لدى البعض، والغايات الأبعد -غير الوطنية- لدى البعض الآخر. وهذان الأمران مؤثران بنسب متفاوتة في أطراف الصراع الثلاثة: (النظام، المعارضة، الحركة الشعبية)..

يتطلب اتخاذ موقف واع من الحوار تكنيس الغبار الإعلامي عن المفهوم وصولاً إلى معناه الحقيقي.. ويتمثل هذا الغبار بداية بتصوير الحوار على أنه شكل من أشكال التنازل أمام النظام. وبالمقابل، لدى البعض الآخر، تنازل أمام الحركة الشعبية، ومباشرة يتم رفض الحوار على أن الثورة ثائرة ولن تبقي ولن تذر، وبالمقابل فإن المؤامرة قائمة وكبيرة وتالياً يجب اجتثاثها وعدم التنازل أمامها إطلاقاً..

أول ما ينبغي التعاطي معه بجدية هو واقع أن الاستعصاء القائم يعني فيما يعنيه أن لا غالب ولا مغلوب.. إذ إن الأشهر المنصرمة أثبتت بما لا يقبل الجدل أن «النظام» غير قادر على كسر الحركة الشعبية وإخمادها، وأن الحركة الشعبية غير قادرة هي الأخرى على «إسقاط النظام»، من هنا تحديداً تأتي أهمية الحوار، فالقول بعدم ضرورة الحوار يصح في حالة واحدة هي وجود منتصر مطلق وخاسر مطلق، ليغدو عندها الحوار استسلاماً من الخاسر دون قيد أو شرط، وهذا ما لا يوافق الواقع القائم. إضافةً إلى ذلك فإنه وضمن الاستعصاء -الذي يعني لا غالب ولا مغلوب- فإن الذهاب نحو الحوار هو أمر إلزامي شاء من شاء وأبى من أبى، فكل الصراعات تنتهي بالحوار.. كذلك انتهت الحربان العالميتان الأولى والثانية، والحرب الأهلية اللبنانية.. وكذلك انتهت كل الحروب والمعارك عبر التاريخ، الفرق الوحيد أن الذهاب اليوم إلى الحوار سيكون بحصيلة قد تصل إلى خمسة آلاف شهيد، والذهاب بعد سنة سيكون بعشرات وربما بمئات آلاف الشهداء، عدا عن الاحتمالات الخطرة التي قد تلغي إمكانية كون الحوار داخلياً وتثبّت الحوار كتفاوض بين الداخل السوري والخارج الإقليمي والدولي..

 

ما الذي يعنيه التنازل المتبادل..؟

يفترض الذهاب إلى الحوار –ضمناً- التنازل من قبل الأطراف المتحاورة، والتنازل هنا ليس كرم أخلاق من أحد، وإنما هو تنازل كل طرف من الأطراف عما لا يملكه حقاً، فوظيفة الحوار بهذا المعنى هي الوصول بأقل الخسائر إلى بنية سياسية جديدة تعبر عن توازن القوى الجديد، إذ إن ظهور قوة الشارع يفترض القطع مع البنية السياسية القديمة التي لم تستطع استيعابها، أي أنها لم تعر بالاً لحل مشاكلها وأزماتها وتحولت بذلك ببنيتها القائمة إلى جزء أساسي من مشكلات القوة الجديدة- قوة الشارع..

يقوم الحوار إذاً بتثبيت التعبير السياسي المناسب- الشكل، للمضمون الاقتصادي- الاجتماعي الجديد، وبهذا لا يكون الحوار تجميعاً للآراء المتعارضة المنتمية بمجملها إلى البنية السابقة، وإنما يكون تركيباً جدلياً لها ينتج الرأي الثالث الأرقى..

يبقى أن نقول إن هنالك من يريد للحوار أن يكون شكلياً، ويعطي باستمراره بالحل الأمني الذريعة للطرف الآخر لرفض الحوار.. وهذا الطرف هو تحديداً قوى الفساد الكبير داخل جهاز الدولة، ولكن أنى لهذه القوى أن تتجاوز ما تريده الحياة.. فهي مرغمة على التراجع والتنازل عما لم يعد ملكاً لها وعما لم تعد قادرة على الدفاع عن امتلاكه.. وهناك أيضاً من «المعارضة» من يصر على رفض الحوار على اعتبار أنه يرفض أي تنازل! وهو مستعد لأن تستمر المعركة بدماء السوريين ولا يتنازل عما يريده، وذلك طبعاً دون أن يقدم شيئاً اللهم إلا بعض الأدرينالين الذي يصرفه أثناء موجات الغضب التي تجتاحه على المنابر الإعلامية..

يقف الطرفان السابقان موقفاً واحداً من حيث الجوهر، وإن كان تضادهما هو الأكثر شراسة من حيث الظاهر، فهما بإصرارهما على رفض الخروج من الاستعصاء يصران على قتل الحركة الشعبية، ومنعها من الدخول كقوة فعلية في البنية السياسية الجديدة، ليحافظوا بذلك على حصتهم من النهب. ويندرج صراعهما في إطار التحاصص بين الناهبين ولكن بدماء المنهوبين، ولا يعيرون بالاً أثناء نهشهما لبعض لمستقبل سورية ككيان جغرافي- سياسي موحد، ولا يعبآن كثيراً بالاحتمالات الخطرة للتدخل الخارجي ولمحاولات التفتيت المتصاعدة يوماً بعد آخر..

ينبغي الوقوف في وجه الطرفين المتمترسين ضمن الخندق نفسه إنقاذاً لسورية ولشعبها.. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بإصرار الحركة الشعبية على مطالبها وعلى سلميّتها، وبرفضها للتدخلات الخارجية أياً كان شكلها ولونها، وعلى الحركة الشعبية أن تطالب بالحوار وتسعى نحوه أكثر مما يفعل «النظام»، فمصلحتها الحقيقية هي مصلحة السواد الأعظم من الشعب السوري الذي فُرض عليه حتى الآن أن يصطف بين «معارض» و«موال» تحت ضغط الإعلامين المحلي والخارجي من جهة، وتحت ضغط أيديولوجية الثأر لجهة بعض القوى المعارضة وأيديولوجية الاستبداد لبعض القوى الموالية من جهة أخرى.. كما أن على القوى الشريفة داخل جهاز الدولة أن تضع حداً للحل الأمني وعليها توفير المناخ الملائم للحوار.