الخلطة العربية
قبيل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) بدأت تتشكل الخلطة السياسية والاجتماعية العربية.
في ظل الحكم العثماني لم تخرج المنطقة العربية في سائر أجزائها عموماً عن أواخر الدولة العباسية: حياة اجتماعية قبلية وعائلية، وحياة اقتصادية حرفية، أمية سائدة وتشمل الريف كله تقريباً، والأغلبية الساحقة من سكان المدن، وسائل النقل محدودة، لا يعرف المرء أبعد من قريته أو مدينته سوى بضع عشرات من الكيلومترات.
فتحت نافذة على العالم في القرن التاسع عشر في شمال أفريقيا عبر الاحتلال الفرنسي، وفي مصر عبر تناوب النفوذين الفرنسي والانكليزي، وفي لبنان عبر النفوذ التبشيري الأوروبي.. أما الريف، وفقراء المدن، فبقوا على حالهم.
والتناقض الأوربي مع الإمبراطورية العثمانية ساعد المثقفين العرب وغير العرب المهاجرين في أوربا، أو الذين عادوا إلى بلدانهم في تفعيل القوميات التي ينتمون لها، العربية واليونانية والبلغارية، والأرمنية، وغيرها.
حصة المنطقة العربية كانت إحياء للغة العربية، ولأدبها الفقير اصلاً، ولكنه موجود على شكل شعر، ومقطوعات سمعية، وأدب شعبي ركيك اللغة وساذج التصوير. طوع المثقفون اللغة العربية للتعبير عن فنون الأدب الحديث، تأليفاً وترجمة، وأيضاً للتعبير عن اللغة العلمية.
أقحم عرب المشرق في الحرب العالمية الأولى ضد العثمانيين مع حلم امبراطوري عربي بخلافة حسين بن علي «شريف» مكة حينذاك وجد الأسرة الهاشمية، التي تتالت سيطرتها فيما بعد على المنطقة في الشرق العربي.
الحلم الإمبراطوري تبخر بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنه أورث توجهين قوميين عربيين بقيا متداخلين حتى خمسينيات القرن الماضي، الأول التوجه القومي «الهاشمي» الذي تجسد بإمارة عبد الله الأول بن حسين على شرقي الأردن، وبالمحاولة الفاشلة لترؤس فيصل بن حسين، ملكاً على سورية، ثم بتنصيبه لاحقاً، ملكاً على العراق. والتوجه الثاني هو المستقل من الأول، والذي نادت به أحزاب الاستقلال في سورية أو العراق أو لبنان، وبقي قومياً طائفياً، وأيضاً الذي نادت به عصبة العمل القومي في سورية، وحزب البعث، الذي نشأ في سورية وانتشر في بلدان عربية أخرى.
العصبة انتهت سريعاً، أما البعث، فلعب دوراً واسعاً سورياً وإقليمياً.
البعث يختلف عن غيره من الأحزاب القومية في أنه حسب دستوره، الذي صدر في 1947 عن مؤتمره الأول، أنه ديمقراطي برلماني، دون التوضيح، إن كان جمهورياً أو ملكياً، لأن في أفق بعض مؤسسيه كان الاتحاد مع النظام الملكي العراقي، وأنه علماني، دون أن يحدد ذلك صراحة، وقد تطور فيما بعد إلى التخلص من «هاشميته»، وللمفارقة إلى اليسار في بعض تشكيلاته، وإلى الطائفية في تشكيلات أخرى.
الحلم الإمبراطوري في منطقة ضعيفة التطور، ما يزال الريف إلى اليوم في مناطق واسعة منه جائعاً، وتنقصه الكهرباء ووسائل النقل، وحتى التلفون، هو أقل ما يقال فيه إنه غير واقعي. ومع ذلك فإن الحلم الإمبراطوري هو غير التوجه القومي، الذي لعب دوراً وطنياً في أكثر من بلد.
غير التوجه القومي العربي، وجد بعد الحرب العالمية الأولى التوجه «القومي» الطائفي (المسيحي، السني، الشيعي، إلخ) والتوجه القومي المحلي (السوري، الفرعوني، إلخ) وأيضاً التوجه الطائفي - العرقي، وغيره.. وظهر في عشرينيات القرن الماضي التوجه الشيوعي، وكل ذلك بإيحاء وتشجيع من القوى الأوروبية، ولا يهم هنا أن يكون زعماء تلك التوجهات مرتبطين بالمخابرات الدولية أم لا، فالفرق بين الارتباط وعدمه هو قبض المال: غير أن أي توجه لا يمكن أن يأخذ حيزاً اجتماعياً من دون تمويل، ومن أين يأتي التمويل، حتماً ليس من جيب الفقراء، الذين من المفروض أن يكون الحزب لهم، لأن هؤلاء ليس لديهم جيب (!).
بقبض المال مباشرة أو بغير مباشرة، أوجدت الحركات السياسية الممثلة للتوجهات، التي مررنا على خطوطها العامة ثقافة سياسية متنوعة، منها القوميات العربية أو المحلية، ومنها الشيوعية.
تلك الثقافة بقيت إلى حد كبير في السطح، في سطح المثقفين، الذين ازداد عددهم دون شك، ولكنهم بقوا يؤلفون أقليات بالنسبة للشعب: الأحزاب على تنوع هوياتها بقيت تريد مؤيدين، لا أعضاء، أي مؤيدين يصفقون، هم أعضاء بطبيعة الحال ولكنهم ليسوا أعضاء بمعنى الفاعلية الثقافية والاشتراك في مصير الحزب. كانت الأحزاب عموماً تعتمد الزعيم، ما يقول هو القول الفصل، والانشقاقات تحدث بين زعماء قائمين، وآخرين يرون أنهم أحق بالزعامة: إنه نوع حديث من الصراع القبلي، الذي يأخذ شكلين، صراعاً مع الآخر، أو صراعاً داخلياً، ولا يهم من معه الحق، فهذا عموماً موضوع على الرف.
لذلك فإن الجمهور بقي إما محايداً، والحياد في قضايا مصيرية هو دمار، أو محبذاً لسبب أو لآخر هذا الحزب أو ذاك. أي عملياً بقيت الطبقة السياسية في واد، والجمهور في واد آخر.
وبما أن الثقافة السياسية لم تتغلغل إلى العمق الاجتماعي، فالوضع القبلي والعائلي بقي هو التركيبة الأساسية للمجتمع. بل إن الطبقة السياسية نفسها بقيت أسيرة تلك التركيبة لسببين، الأول من أجل استخدامها في النشاط السياسي، والثاني لأنها هي نفسها لم تتحرر من التركيبة.
ربما هنا ثمة أمر هام، من الضروري وضعه في الاعتبار، وهو أن ثمة خيطاً دقيقاً يفصل بين استخدام التركيبة الاجتماعية لاستغلالها، وبين احترام الإنسان واحترام قناعاته بالتالي.
مثلاً، ادعاء التدين، والعمل على التكتيل الطائفي من خلال ذلك، هو استغلال للدين، وللناس في الوقت نفسه. أما احترام تدين المؤمنين في العمل السياسي الوطني، هو احترام للناس. إن البنية القومية التقليدية لا تزول إلا بالتطور، وبالتطور الاقتصادي بالدرجة الأولى، وما دامت موجودة، فالعمل السياسي الوطني يجب ألا يتجاهلها، أو تصطادها الرجعية، كما حدث ويحدث فعلاً. غير أن «التكيف» معها هو في الوقت نفسه تراجع عن العمل الوطني إلى العمل الانتهازي الرجعي بطبيعة الحال.
كذلك بالنسبة للعمل السياسي الوطني، ثمة أمر من المهم أن يوضع في الاعتبار، الصراعات بين الأحزاب في المنطقة أخذت عموماً صراعاً بين الإيديولوجيات، وهذا الصراع هو في حقيقته صراع على «الزعامة»، وهو من نوع الصراع القبلي، فلكي يكون الأساس وطنياً في الصراع، يجب أن يكون الصراع حول الأداء. ففي مرحلة نضالية ضد الاستعمار، الأداء هو نضالي، وفي مرحلة بناء البلد، الصراع هو في مجال التعاون على البناء.
العامل الدولي ساهم إلى حد كبير في تركيبة الخلطة السياسية العربية، فالتيارات القومية على تنوعها خلقتها أوروبا الاستعمارية.
وجميعها تميزت بأمرين: الأول هو حلم إمبراطوري، والاختلاف بين الأحزاب هو على الحدود، والثاني غيبية تستند إلى رؤية وردية للتاريخ، متناقضة مع كون التاريخ السابق للرأسمالية الدولية هو تاريخ للعبودية في كل مكان، والفرق كبير بين الاستفادة من التراث التاريخي، واحترام التاريخ، والنظر إليه نظرة تحليلية، وبين اعتباره أساساً للمستقبل. والتيارات الشيوعية أو اليسارية، تأثرت إما بالشيوعية الدولية، أو بالاشتراكيات الأوروبية.
ومن دون العامل الدولي ما كان بالإمكان بناء أية حياة سياسية سوى الحياة القبلية، فالكلمات ديمقراطية، برلمان، دستور، حزب..إلخ، ما كان لها أي وجود لولا العامل الدولي. ومن الطبيعي أن يكون التطور الرأسمالي الدولي، ومنه الاستعمار حمل الكثير مما هو جديد إلى كل العالم، ومن الجملة المستعمرات السابقة.
طبعاً، الاستفادة من التطور لا يتناقض مع محاربة الاستعمار، التي من دونها تبقى الشعوب مستبعدة، ومنها شعوب البلدان الرأسمالية، ولكن محاربة الاستعمار لا يمكن أن تعني محاربة التطور، وإنما المفروض أن تعني الاستفادة من التطور في المحاربة. فالتقوقع في الماضي، مثلاً، هو سقوط في سلة الاستعمار في النهاية.
وإذا كان العامل الدولي هو الذي نقل الطبقة السياسية العربية إلى العصر الحديث، فإنه هو الذي تصرف، وهو الذي يتصرف بمصائر الشعوب، ومنها شعوب المنطقة العربية.
- الاستعمار الفرنسي هو الذي احتل شمال أفريقيا (تونس والجزائر ومراكش)، وسيطر على مصائر تلك البلدان حتى ستينيات القرن الماضي.
- الاستعمار الإيطالي احتل ليبيا.
- الاستعماران البريطاني والفرنسي تناوبا في صياغة مصير مصر والسودان حتى خمسينيات القرن الماضي.
- الاستعمار البريطاني أقحم المنطقة العربية الشرقية في الحرب ضد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى مع حلم بالخلافة لإمبراطورية عربية.
- الاستعمار الفرنسي هو الذي تصرف بمصير سورية ولبنان حتى أربعينيات القرن الماضي.
- الاستعمار البريطاني أقام النظامين الهاشميين في العراق وشرقي الأردن، ومهد في فلسطين بالتعاون مع الاستعمار الأمريكي لإقامة «إسرائيل».
- الاستعمار الأمريكي حصل على امتياز البترول في السعودية في ثلاثينيات القرن الماضي.
- الاستعمار الأمريكي أقام «إسرائيل» في 1948.
- الاستعمار الأمريكي طرد النفوذين البريطاني والفرنسي في خمسينيات القرن الماضي من المنطقة العربية ومن إيران وغيرها.
- الاستعمار الأمريكي قام بتفعيل الطائفية في كل العالم ومن الجملة في المنطقة العربية.
- الاستعمار الأمريكي قام باحتلال العراق.
- الاستعمار الأمريكي مازال يتصرف بمصائر الشعوب العربية وغيرها. إلخ..
الآن الخلطة العربية السياسية تتألف من طبقة سياسية تجتمع فيها وبمقادير مختلفة، جميع مفردات التراث السياسي المنتقل من عشرينيات القرن الماضي إلى اليوم: التيارات القومية والوطنية العامة (الاستقلالية) الطائفية القديمة واليسارية الأوروبية والشيوعية، ومن جمهور متأثر قليلاً بالطبقة السياسية، وكثيراً بالطائفية، التي قامت الإدارة الأمريكية بتفعيلها، وأيضاً بالقبلية الموروثة من الماضي.
ومن جملة الطبقة السياسية الحكام، وهم عموماً متحالفون مع الإدارة الأمريكية، أي مع الاستعمار، وموقفهم السياسي هو مع الطائفية.
والمنظور في ظل الهيمنة الأمريكية في العالم هو أسود، وتنتقل أمور البلدان والشعوب من سيئ إلى أسوأ. فالبلدان تتمزق، والشعوب تتعرض لغير الجوع والفقر، إلى المجازر، الناجمة عن الاحتلال، أو عن الفتن الطائفية لا فرق.
وفي المنطقة العربية، ما دامت الطائفية هي المسيطرة حكماً وسياسة وتوجهاً، فالنتيجة هي تتابع المجازر والنكبات، نكبات الاحتلال، ونكبات التمزيق، إلخ.. والمخرج من كل ذلك هو دولي، لا إقليمي ولا وطني فقط.
ولكن حتى المخرج الدولي غير مجد بالنسبة للمنطقة، مالم تقم هذه بحصتها حتى النضال السياسي. وهذا يختلف عن الماضي بأن شرطه الأساسي غير الكافي، أن يتخلص من الأوهام الموروثة، ومن الطائفية، والأمران ليسا سهلين.
الأحزاب الوطنية والشيوعية تستطيع عمل الكثير، ولكن ليس بالأسلوب الحالي أو الماضي.
الأحزاب يجب أن تضم مناضلين، لا مؤيدين فقط، لكي تستطيع القيام بخطوات فعلية في سبيل رفع النير الاستعماري عن المنطقة.
المؤيدون ضروريون، ولكن غير كافين. ومن جهة أخرى، مهما كان القمع شديداً، فالأحزاب، إذا ما أرادت، تستطيع أن تجد الوسيلة، أو الوسائل، ولكن... إذا ما أرادت.