تفجير التبادل اللامتكافئ!
كان واضحاً منذ أمد غير قليل أن ملف إيران النووي ذاهب نحو التوقيع، وأنّه سيجري اعتراف دولي، أمريكي-أوروبي خاصة، بسلمية هذا البرنامج، وأن العقوبات الاقتصادية سيجري رفعها.. ورغم وضوح ذلك كلّه إلا أنّ الحدث يبقى مفاجئاً في جانب منه على الأقل..!
إنّ قراءة أولية للاتفاق ببنوده العريضة تسمح باستنتاجات أساسية على مستويين: جزئي، يتعلق بتفاصيل الاتفاق نفسه، وكلي، يدرس السياق الدولي والإقليمي العام لهذا الاتفاق، وهو الأهم بطبيعة الحال.
المستوى الجزئي
في تفاصيل الاتفاق يمكن التوقف عند النقاط الأساسية التالية:
الاعتراف بسلمية البرنامج النووي الإيراني.
لم ترفع العقوبات الاقتصادية كلها دفعة واحدة، ولكن تم بالمقابل رفع أهمّ العقوبات وأخطرها، وهي العقوبات المتعلقة بتجارة الطاقة وبالقطاع المالي، وهذا يعني فتح الآفاق أمام ارتفاع معدلات النمو إلى حدود 8% كحد أدنى وفق مختلف التقديرات، وهو رقم عالي الأهمية، ويعني مضاعفة حجم الاقتصاد الإيراني خلال تسع سنوات..
جرى إنهاء حظر التسليح، وإبداله قيوداً على التسليح، محدودة بسنوات عدة قابلة للتقليص.
بالمحصلة، فإنّ الاتفاق انطلاقاً من جزئياته، يبدو أٌقرب إلى التعادل منه إلى انتصار ساحق لطرف على آخر، مع أن مجرد تعادل الطرفين (الإيراني، والأوروبي- الأمريكي) يعني انتصار إيران.
المستوى الكلي
يأتي الاتفاق تعبيراً مكثفاً عن تقدم عملية الترجمة السياسية والاقتصادية للتوازن الدولي الجديد الذي تتراجع ضمنه واشنطن والصهيونية وحلفائهما بشكل مستمر. والاتفاق، إذ يأتي نتيجة لهذا التوازن، فإنّه وبمجرد توقيعه قد تحول بذاته إلى سبب في تسريع ترجمة هذا التوازن، ليس على المستوى المحلي الإيراني فقط، بل وعلى المستوى الإقليمي والعالمي، بما يعنيه ذلك من انعكاسات على مختلف الأزمات الراهنة بما فيها الأزمة السورية، ودائماً ضمن معادلات جديدة، يكون الأمريكي فيها أضعف مما كان عليه سابقاً.
ضمن السياق السابق نفسه، فإنّ الوصول إلى حل المشكلة بالتفاوض وبالطرق السلمية، يعني تكريس الحلول السياسية بوصفها الطريق الوحيد لحل جميع الأزمات، الأمر الذي سيسرع بدوره في حل بقية الأزمات المعلقة وبالطريقة التفاوضية السياسية ذاتها.
يفتح الاتفاق الباب أمام وضع مسألة السلاح النووي «الاسرائيلي» على طاولة البحث الدولي، ضمن «شرق أوسط خال من السلاح النووي» ويبدو أن هذه المسألة بالذات- إضافة إلى ما يمثله الاتفاق من تراجع في القطب الذي تنتمي إليه الصهيونية- هي ما تثير هلع الصهاينة وتدفعهم نحو العويل. وهذه المسألة، بمجرد وضعها على طاولة البحث، فإنها ستغير إلى الأبد، وضع الكيان الصهيوني في المنطقة، واضعة إياه نفسه موضع البحث، في نهاية المطاف.
إذا كانت عمليتا فرض النفط بوصفه مصدر الطاقة العالمي الأساسي، وتسعيره بالدولار، هما الأداتان الأكثر أهمية في نهب شعوب العالم بأسره خلال كامل القرن الماضي، على يد واشنطن والغرب، فإنّ تغيير معادلة الطاقة هذه، والذي ظهر في الحالة الإيرانية، عبر كسر احتكار استخدام الطاقة النووية السلمية، سوف يأخذ طريقه نحو الانتشار الأوسع، كاسراً إلى الأبد مسألة احتكار الطاقة وطرقها، وكاسراً بذلك عقوداً طويلة ومريرة من التبادل اللامتكافئ. يعزز هذه المسألة أنّ التقنية النووية نفسها ليست مصدراً للكهرباء الرخيصة فقط (تكلفة الكيلو وات الساعي المنتج نووياً هي بين 2.5 إلى 3.5 سنت للكيلو، بمقابل 9 سنت وسطي إنتاج الكيلو واط الساعي من مختلف أنواع المصادر الطاقية حسب تقرير لوكالة الطاقة الأمريكية)، بل وأساساً لابد منه للتصنيع التقني العالي في عدد كبير من مجالاته، وهذه مسألة قلّما يشار إليها، وذلك عن سابق إصرار وعمد. وهذا يعني فتح الأفق أمام شعوب العالم، وشعوب دول العالم الثالث خاصة، نحو إنهاء أكبر عملية نهب تعرضت لها عبر التاريخ.
إنّ اتفاقاً بأهمية الاتفاق النووي الإيراني، إذ يؤكد بشكل قاطع صحة مسألة التوازن الدولي الجديد، فإنّه لا يفاجئ من درس هذا التوازن وتحدث عنه مراراً وتكراراً خلال سنوات متعاقبة. ولكنّه يقدم، رغم ذلك، مادة جديدة وغنية للدراسة، ولإعادة ترتيب المعطيات وصولاً إلى استشراف أدق للمستقبل القريب.
التبادل اللامتكافئ:
هو أحد أهم آليات الاستعمار الحديث- الاقتصادي، والتي ارتكزت تاريخياً على تقسيم دولي بين دول مستهلكة ودول مصنعة، حيث يعتمد هذا التبادل على قصر دور الدول «المستعمرة اقتصادياً» على تصدير المواد الخام التي يجري تصنيعها في الغرب لإعادة تصديرها إلى تلك الدول بأضعاف قيمها الحقيقية. تتكثف هذه العملية في الفروقات الكبرى بين القيم الشرائية للعملات في الغرب مع نظيراتها في «الدول المستعمرة».