اللقاء اليساري العربي.. عالقاً عند «لحظة الانهيار»!

اللقاء اليساري العربي.. عالقاً عند «لحظة الانهيار»!

انعقد اللقاء اليساري العربي السادس الاستثنائي في بيروت يوم التاسع من أيار الجاري، بدعوة من لجنة متابعته ومن الحزب الشيوعي اللبناني.

استغرقت أعمال المؤتمر يوماً واحداً انتهى إلى مسودة بيان ختامي تم تعديلها وإصدارها بعد أيامٍ من انتهاء المؤتمر، حيث استكمل العمل على المسودة بمراسلات متبادلة بين المشتركين، ورغم محاولات العمل الجدّي على البيان، إلّا أنّه جاء إشكالياً في رؤيته العامة وفي العديد من تفاصيله..

الأزمة الرأسمالية غائبة!

إنّ من البديهي أنّ محاولة فهم الواقع السياسي المحلي لأي بلدٍ من البلدان، فهماً علمياً وجدياً يسمح بصياغة مهام ثورية حقيقية في عصر ترسملت الأرض فيه حتى آخر نقطة فيها، ليس ممكناً أبداً دون تكوين صورة واضحة عن وضع «الدول العظمى» من جهة، وعن وضع الرأسمالية ككل من جهة أخرى. فكيف والمجتمعون يضعون على عاتقهم مهمة صياغة مواقف على مستوى مجموعة كاملةٍ من البلدان، هي البلدان العربية!

من ذلك أنّ البيان الختامي جاء خالياً من أية إشارة إلى الظاهرة الأساسية التي تقف في خلفية المشهد العالمي والإقليمي والعربي والمحلي، ألا وهي الأزمة الرأسمالية الراهنة، الكبرى والمتفاقمة والعميقة والشاملة، وما أنتجته من توازن دولي جديد. ولم يقتصر الغياب هذا على غياب الأزمة من الصياغة فقط، بل وعلى غياب الفكرة كلّها من قاعدة التفكير، الأمر الذي انعكس على صياغات البيان جميعها، العامة والتفصيلية، فوضع لها سقوفاً متدنية جداً لا تجابه الضرورات الثورية التي يفرضها الواقع نفسه، بل وحتى أنها لا تصل إلى حدود الإمكانيات التي يقدمها هذا الواقع.. فبدل ملاحقة العدو المتراجع بالضربات، يصبح على القوى الثورية التكور على ذاتها لتخفيف آثار التراجع الافتراضي.

«أحلام» العدو.. وواقعه!

حين توضع مهمة التصدي لمشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي يهدف، حسب ما جاء في البيان، إلى: «تفتيت العالم العربي إلى دويلات طائفية ومذهبية وإثنية متناحرة في ما بينها، بما يسهّل السيطرة على ما تختزنه أرضها من ثروات، مروراً بالمساعي المحمومة لتصفية القضية الفلسطينية وتحقيق حلم الكيان الصهيوني المسمى «يهودية الدولة» على أرض فلسطين، ووصولاً إلى الخطة المتعلقة بإعادة تحديد أدوار جديدة، ذات طابع مذهبي، للدول الإقليمية، ومنها تركيا على وجه الخصوص»، حين تحدد المهمة بهذا الشكل فإنّ للسائل الحق بأن يسأل: هل بقيت ثروات في منطقتنا خارج السيطرة الأمريكية ليكون التفتيت أداة السيطرة عليها؟ أم أنّ إشعال الحرائق والسعي نحو التفتيت يأتي، من حيث الأساس والجوهر والطابع الاستراتيجي، في إطار محاولة الأمريكي الاشتباك مع القطب الصاعد وإشغاله لتغطية التراجع والتقهقر المتدحرج الذي تعيشه واشنطن تحت وقع أزمتها؟ ومرة أخرى، حين يكون العدو في مرحلة التراجع فهل تكون المهمة هي الدفاع؟ أم تصعيد الهجوم للإجهاز عليه نهائياً؟

إنّ القول مثلاً بأنّ «خطر تصفية القضية الفلسطينية» لا يزال قائماً، والتسليم بهذا القول، يجعل من المنطقي أنّ المهمة المباشرة هي العمل على عدم تصفية القضية الفلسطينية! وكأنّ بعض اليسار لم ينتبه إلى أنّ «إسرائيل» خسرت أربعة معارك متتالية خلال العقد الماضي! وفي وقت تنفتح فيه، وعلى العكس تماماً من احتمال «تصفية القضية»، تنفتح الآفاق التاريخية واسعاً، وتحت وقع الأزمة الرأسمالية، والتي لا يبدو على بعض من قوى اليسار المجتمع أيضاً أنّها تستوعب أبعادها حتى الآن، تنفتح الآفاق أمام تصفية المشروع الصهيوني نفسه في المنطقة كلّها، وفي العالم! يوجد فرق كبير أليس كذلك؟

الإقتصادي- الاجتماعي أقّل أهمية!  

تنسحب عقلية الهزيمة نفسها على غياب ذكرٍ صريح ومباشر لأهمية وراهنية النضال الإقتصادي- الاجتماعي، ما يفقد «الديمقراطي» المتكرر في البيان في مواضع عدة صفته الطبقية واليسارية ويجعل من التمييز بينه وبين الديمقراطي البرجوازي الذي يقتصر على نضال عام من أجل الحريات السياسية وفقط أمراً عسيراً. وينحي بالتالي –من حيث يدرك أو لا يدرك- إلى مرتبة ثانية المهام الاقتصادية- الاجتماعية: «تحديد طبيعة الصراع الدائر في المنطقة العربية على أنه صراع تحرري يهدف الى الانعتاق من الهيمنة، ومن محاولات إخضاع شعوب المنطقة وثرواتها وإرادتها لمصالح القوى الامبريالية» وأيضاً: «العمل على بناء جبهة مقاومة وطنية عربية شاملة على أساس برنامج للتغيير الديمقراطي غير منفصل عن المقاومة، تجد فيه الشعوب العربية تحقيقاً لأهداف ثوراتها وانتفاضاتها في الحرية والديمقراطية والمقاومة»!

إنّ الحديث عن التغيير الوطني الديمقراطي، بشكله المذكور آنفاً وغياب إشارة واضحة إلى مضمون هذا التغيير الإقتصادي- الاجتماعي، لا يعدو كونه (من حيث الشكل على الأقل) تكراراً لا روح فيه للمهمة التي وضعت في مرحلة التحرر من الاستعمار التقليدي، حيث لعبت البرجوازية الوطنية إلى جانب الطبقات المنهوبة دوراً وطنياً هاماً.. فهل يستطيع أحد أن يدلّنا أين نجد مثل هذه البرجوازية في بلداننا اليوم؟ وإن وجدت فما هو حجمها؟ وهل يمكن، برأي أصحاب هذا الرأي ضمن اليسار، تفعيل المقاومة و«التحرر من الهيمنة» دون التحرر الاقتصادي الذي لم تعد البرجوازية معنية بحمل لوائه منذ زمن طويل؟؟.. منذ قال ستالين أن: «لواء التحرر في بلدان العالم الثالث سقط من أيدي البرجوازية وعلى قوى العملية الثورية التقاطه»..

التوازن الدولي الجديد

لا يقل فهم التوازن الدولي الجديد أهمية عن فهم الأزمة الرأسمالية التي أنتجته، فبعض اليسار الذي لا يزال عالقاً عند لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا يزال متكوراً في وضع الدفاع، غدا حريصاً كل الحرص فيما يبدو على فهم «المؤامرة الكونية» ضده! فصراع الأقطاب الجديد، هو صراع وحوش رأسمالية تقليدي تدفع ثمنه الشعوب.. والخ. ولا يستطيع هذا اليسار، ومرة أخرى بسبب غياب فهم الأزمة الرأسمالية وعمقها، أن يرى في الصراع القائم مقدمات انتقال كبير قادم على مستويات دولية وعالمية، باتجاه آفاق جديدة بالكامل، ليس استناداً إلى نوايا أيٍ من المتصارعين، ولكن استناداً إلى انسداد الآفاق التاريخية أمام الرأسمالية نفسها..

 لا يرى الصراع بين الحرب والسلم، بين إشعال الحرائق وإطفائها مؤشراً على شيء مهم، ولا يرى أنّ أولئك الذين يشتغلون في إطفاء الحرائق وفي مقدمتهم الروس والصينيون سينزاحون في إطار الصراع موضوعياً نحو العمل ضد الرأسمالية نفسها في بلدانهم هم.. وبالتالي، لا يرون أنفسهم - كيسار- جزءاً من الصراع إلا من موقع المظلومية التاريخية التي عليها أن تصابر على الضربات حتى يجيء زمان آخر.. 

«قوى الظلام وقوى النور»!

في الإطار ذاته، يأتي تعبير «القوى الظلامية» الذي يفتقد لأي مضمون طبقي حقيقي، ويطرح بداهةً وابتداءً من التسمية، مهمة التنوير والعلمنة! في عصر الثورات، المهمة هي التنوير!! ويتشارك من حيث لا يدري مع الجوقة الإمبريالية وجوقة النظم المستبدة التي ترد ظواهر مثل «داعش» إلى مشكلة في الوعي وفي الثقافة، بعيداً عن أساسها الاقتصادي- الاجتماعي، بل وبعيداً عن كونها إحدى تعبيرات «فاشية جديدة» ممثلة لمصالح رأس المال المالي العالمي في أزمته المتعمقة باطراد، وهذا الأهم.. وهو ما يؤكد مرة أخرى على أن فقدان بعض هذا اليسار لرؤية علمية وفهم عميق للأزمة الرأسمالية وللتوازن الدولي الجديد وأبعادهما وانعكاساتهما هو المسؤول الأساسي عن مجمل المواقف والآراء التي تظهر في البيان الختامي الذي نناقشه..

لماذا وقعنا؟

رغم الثغرات والمشكلات العديدة في البيان الختامي، إلا أنّ حزب الإرادة الشعبية وقع عليه بعد أن أسهم في تعديله في مواضع عدة، حتى بات يحقق حداً أدنى، هو أقل من المأمول بكثير، ولكنّه مع ذلك قابل للبناء عليه باتجاه تصحيح هذه المشكلات جميعها، والأمر الذي يجعل حزبنا مطمئناً لهذا هو الأزمة الرأسمالية المتعمقة نفسها وانفتاح الأفق التاريخي أمام تقدم الحركة الشعبية وانتصارها، وهو ما ستزداد وتتعاظم دلالاته ومؤشراته خلال الفترات القريبة القادمة..

«الطامة الكبرى»

إذا كانت الأفكار التي نجدها خاطئة في البيان الختامي جميعها قابلة للتفسير انطلاقاً من وضوح عدم فهم جزء من المشاركين للأزمة الرأسمالية وللتوازن الجديد، فإنّ الفقرة الطويلة نسبياً المتعلقة باليمن، والتي نورد تالياً مقتطفاً منها، لا ينطبق عليها هذا.. «يؤكّد اللقاء أن الحل الوحيد للأزمة اليمنية إنما يكمن في تطبيق المبادرات، ومنها مبادرة الحزب الاشتراكي اليمني، الداعية إلى وقف الحرب الخارجية والداخلية، ومعالجة تداعياتهما..»!! 

إنّ الفقرة بكاملها، إنما سعت إلى الخروج بموقف متوازن، والحق أنها لم توفق إلى ذلك نهائياً، فمن جهة أولى، فإنّ محاولة الوقوف على مسافة واحدة من المبادرات المختلفة، علماً أن المبادرات جميعها «تدعو إلى وقف الحرب الخارجية والداخلية» بشكل أو بآخر، رغم التعارض البين في أهداف ووسائل كل منها، إن محاولة توفيقية من هذا النوع تظهر اليسار العربي في المحصلة بموقع هزيل، موقع «النأي بالنفس»! موقع لا موقف له من هذه المسألة..

من جهة ثانية، هل يجوز لليسار العربي الذي يدعو إلى «حركة تحرر عربية..» وإلخ وإلخ.. أن لا يملك موقفه الخاص المستقل من مسألة لها أهمية المسألة اليمنية؟! وهل يحتاج إلى هذه المبادرة أو تلك ليبني موقفه على أساسها؟!