التبدلات في الأوزان الإقليمية والدولية: قوة العادة والجمود.. في القراءات السياسية
هشام الأحمد هشام الأحمد

التبدلات في الأوزان الإقليمية والدولية: قوة العادة والجمود.. في القراءات السياسية

بالرغم من أن تراجع الدور الأمريكي على الساحة الدولية بات مرئياً من كل القوى التي تمتلك الحد الأدنى من الواقعية والموضوعية، إلا  أن الطريق المتعرج الذي يسلكه ذلك التراجع لا يزال يشكّل خللاً في فهم موازين القوى الدولية الجديدة، وبالأخص لدى أولئك الذين تحكمهم قوة العادة في النظر إلى واشنطن كالمالك الوحيد لمفاتيح السياسية الدولية. 

يمكن بنحو عام فهم الاتجاهات العامة لحركة السياسية الدولية دون بذل الكثير من الجهد. فمن المعلوم أن تراجعاً بدأ يصيب الدور الأمريكي على الساحة العالمية بفعل انفجار الأزمة الاقتصادية الرأسمالية، التي بدأت بالظهور إلى السطح في العام 2008. وفي المقابل، فإن المساحات التي يتركها الدور الأمريكي المتراجع، يملؤها خصوم أمريكا الدوليين، ممثلين بدول مجموعة «البريكس» الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين. هذا الأمر ظهر في محطات عديدة، لعل من أبرزها الأزمة السورية، فقد شكّل تعاطي الطرفين الدوليين مع هذه الأزمة نموذجاً كلاسيكياً، من حيث تعبيره عن حالة التوازن الصفري لمحصلة ميزان القوى الدولية، وتحديداً عند تصدي روسيا والصين عبر حق النقض الـ«فيتو» للتدخل العسكري الخارجي في سورية، أربع مرات متوالية، في مقابل منع الولايات المتحدة منع حل الأزمة السورية سياسياً. واليوم، فإن تقدّم الحل السياسي بخطى وإن كانت بطيئة، ولكنها ثابتة، يعبر عن اختلال ذلك التوازن الصفري لغير مصلحة الولايات المتحدة، ما يعكس استمرار الميل العام للتراجع الأمريكي مقابل صعود الدور المقابل لها.
هبوط متعرج
عند الغوص في تفاصيل المشهد الدولي المعروض آنفاً، تظهر التعرجات المعقدة والدقيقة لميلي التراجع- الصعود لأدوار القطبين الدوليين. وقد يؤدي الخلط بين الميل العام وبين التعرجات الدقيقة له لدى البعض إلى خلل كبير في تقييم الأوزان الدولية، وفي رؤية تلك الأوزان وهي خاضعة لحركتها. فعلى سبيل المثال، فإن تقدماً جزئياً وآنياً للولايات المتحدة الأمريكية في أحد الملفات الدولية، قد يضعه البعض في إطار تماسك الدور الأمريكي واستمراره في الإمساك بمفاتيح السياسة الدولية. ظهر هذا الأمر جلياً في العديد من المحطات، وفي أكثر من ملف.
الأزمة الأوكرانية نموذجاً
في بادئ الأمر، وبعد مرحلة الفيتو الروسي- الصيني ضد التدخل العسكري المباشر في سورية. بدأ التراجع الأمريكي واضحاً ليس لأصحاب البصيرة فحسب، بل حتى لأصحاب البصر. فهي المرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي التي تتصدّى فيها قوى دولية للإرادة الأمريكية قولاً وفعلاً، ليس من خلال منع استصدار قرار التدخل في سورية من مجلس الأمن فقط، بل أيضاً من خلال ممارسة دور سياسي منع ذلك التدخل من خارج إطار مجلس الأمن، كما حدث في العراق  في عام الـ 2003.
ومع انفجار الأزمة الأوكرانية، عادت قوة العادة لدى بعض القوى السياسية والشخصيات لتمارس تأثيراً كبيراً على قراءتها للتوازنات الدولية. فالعادة الراسخة عند هذه القوى كانت تقوم على مدى العقود الثلاثة الماضية على اعتبار القرار الأمريكي كلّي القدرة على الساحة الدولية. وفي عشية انفجار الأزمة الأوكرانية، رأى هذا البعض أن أمريكا أفلحت في إشعال خاصرة روسيا، ما سيؤدي أوتوماتيكياً إلى انكفاء روسيا إلى ساحتها الإقليمية، وانشغالها في إخماد بؤر التوتر في محيطها، متخلية عن دورها في الملفات الدولية الرئيسية.
ولم تجر الرياح بما تقوله تلك القراءة، فرد الفعل الروسي الذي انطلق أولاً من استعادة شبه جزيرة القرم، وضع مسؤوليات وتبعات تفجير الأزمة الأوكرانية سياسياً واقتصادياً وأمنياً على عاتق الدول المساهمة في تفجيرها، وبالأخص الدول الأوربية، وبرز ذلك بوضوح  في مجال نقل الطاقة من روسيا إلى الدول الأوربية، المستهلك الأبرز للغاز الروسي. ونبّهت روسيا في إطار سعيها لحل الأزمة الأوكرانية، من أن استمرار تفاقمها سيصيب في سهامه جوار أوكرانيا كله، ليس من الشرق فقط بل من الغرب أيضاً. الأمر الذي يلقى بظلاله على مستقبل التحالف الأمريكي- الأوربي، حيث يدفع الأوربيين فيه الثمن الأكبر. عدا عن ذلك كله، فإن الرهانات في انكفاء الدور الروسي وتخليه عن الملفات الدولية، ومنها سورية، فشلت كلها، بدا ذلك جلياً عندما تمكّن الروس بوزنهم السياسي والعسكري من منع عدوان أمريكي على سورية، في خريف عام 2013، خارج مظلة مجلس الأمن.
صعود الأوزان الإقليمية
ومن إحدى مصادر الخلل الرئيسية في رؤية الاتجاهات العامة للسياسية الدولية، هي مسألة الأوزان الإقليمية، والتغيرات التي طرأت وتطرأ عليها بفعل تحول المناخات الدولية. فأحد مظاهر تراجع الدور الأمريكي هو تصاعد الأوزان الإقليمية، حتى تلك الأوزان التي تدور في الفلك الأمريكي ذاته، واتساع هوامش مناورتها في ظل التوازنات الدولية الحالية التي لا تميل حتى الآن إلى رجحان تام لصالح هذه القوة الدولية الكبرى أو تلك.
على سبيل المثال يرى البعض أن تصاعد الدور السعودي أو التركي، وحتى القطري، على أنه استمرار للدور الأمريكي في المنطقة، ويضعه في إطار توزيع الأدوار والتحكم الذكي بالأدوات. وهذا الأمر يبقى صحيحاً حتى الآن، لكن المشكلة في هذه القراءة أنها تخلص إلى أن كل ما تقدّم هو دليل عافية للدور الأمريكي واستمراره مهيمناً دون تبدّل. والخطأ الأكبر يقع عندما يفترض أصحاب هذه القراءة أن الإدارة الأمريكية تلجأ إلى الاعتماد على الأوزان الإقليمية التابعة لها لأن ذلك يحقق لها جدوى أعلى من هيمنتها في السابق..

سكونية في القراءة
تتصف القراءة الآنفة بقدر عالٍ من السكونية، فهي تلجأ إلى حساب الأوزان الدولية والإقليمية كمياً، وبمعزل عن الترابط في حركتها والعلاقة فيما بينها، وهكذا يسهل على أصحاب تلك القراءة العودة إلى فهمهم للتوازن الدولي القديم، الذي تتزعم فيه أمريكا السياسة الدولية. إلا أن تلك القراءة تجهل العديد من العوامل الأخرى المؤثرة في السياسة الدولية، فأولاً: إن تصاعد الأوزان الإقليمية في لحظة التوازنات الدولية شبه الصفرية بين أمريكا وبين روسيا- الصين، لا يشمل القوى الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية فقط، ففي مقابل صعود الدور السعودي- والتركي على سبيل المثال تصعد أوزان مقابلة كإيران، على سبيل المثال، إضافة إلى صعود قوى وتيارات وحركات مقاومة محلية معادية للهيمنة الأمريكية. وبالتالي فإن الأدوار الإقليمية مثلما يصب بعضها في مصلحة أمريكا، فإن بعضها الآخر يصب في الاتجاه المقابل. وثانياً: من المعلوم أن القوى الإقليمية الحليفة لأمريكا كانت تمثل على مدى عقود قوى احتياطية، وبالتالي فإن لجوء أمريكا إلى احتياطياتها في هذه المرحلة هو أشدّ التعبير عن أزمتها أولاً، وعن فقدان الصلات المباشرة بالملفات الملموسة على الأرض تالياً، ما يعنيه ذلك من ازدياد التعقيدات الناجمة عن ضعف كفاءة حلفاء الولايات المتحدة بالمقارنة معها في تمثيل مصالحها. ثالثاً: إن ازدياد أوزان حلفاء أمريكا الإقليميين جاء على حساب تراجع الوزن الأمريكي ذاته، وعند حساب الفوارق النوعية بينهما فلن تكون النتيجة واحدة بطبيعة الحال، ولن تصب في المصلحة الأمريكية. ورابعاً: إن التراجع الأمريكي بحد ذاته يدفع بالمزيد من القوى الإقليمية والمحلية باتجاه الفرز والاصطفاف في المواقع المقابلة. خامساً: إن الثبات والجمود في قراءة موازين القوى الدولية يعبر لدى بعض القوى عن حالة قصور معرفي، وافتقار لأدوات التحليل الصحيحة، إلا أنه في المقابل يعبر أيضاً عند البعض من هذا البعض عن البنية المتوافقة مع الدور الأمريكي، من حيث المصالح الطبقية والسياسية، فتلك القوى، وبحكم بنيتها، لا تجد لها مكاناً في عالم يتراجع فيه الدور الأمريكي، لذا تقوم بإنكار هذا التراجع واضعة نفسها في خانة القوى الآفلة عن مسرح التاريخ.