صراع «القوى العظمى».. ومصير دول الأطراف؟!
حتى الأمس كان الكثيرون من «الحكواتيّة» في المنابر الإعلامية، ينكرون حقيقة التراجع الأمريكي، و«يستخفون» برأي من يتحدث في هذه الحقيقة ويبني عليها، إلى أن جاءت الوقائع العيانية سواء كانت في النووي الإيراني أو الملف السوري أو الأوكراني.. لتؤكد عملية التراجع التي لم يسمح المستوى المعرفي للـ«حكواتيه» باكتشافها في الوقت المناسب، أوحاولوا التغطية عليها، وعندما بات واضحاً أن واشنطن لم تعد الآمر والناهي
طلع علينا بعضهم بمعزوفة جديدة مفادها: نحن ندفع ثمن الصراع الروسي الأمريكي؟ في إشارة إلى عدم التمييز بين كل من الدورين، وأغلب الظن سيحاول هؤلاء لاحقاً العودة إلى الدفاتر القديمة كعادة كل «عطّار مفلس»، والسعي إلى نفخ الروح في جثة فكرة قديمة عن مفهوم «الدولتين العظميين» التي تم تداولها في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكانت بداية الانزلاق وتبرير المزيد من التبعية للسوق الرأسمالية العالمية ؟؟! معنى التراجع الامريكي!
تراجع الدور الأمريكي على المستوى الدولي والصعود الروسي لايعني فقط تبديل دور دولة بدوردولة أخرى، وهيمنة بأخرى، بل هو تعبير عن تراجع منظومة اقتصادية اجتماعية سياسية بكاملها، وتحديداً الرأسمالية، وعلى وجه الخصوص قوى الرأسمال المالي »الربوي من جهة«..وصعود بنية أخرى هي أيضاً «رأسمالية» ولكنها تتعرض للنهب من الأولى ومهددة منها، وليس أمامها غير خيارالمواجهة اولاً، تجذير المعركة ضد البنية الأولى وصولاً غلى بنية جديدة.
أريد القول إن الصراع الدائر في عالم اليوم هو صراع بين بنية اقتصادية اجتماعية سياسية متهالكة بحكم تناقضاتها الداخلية والخارجية، وعاجزة عن حل أية مشكلة منتصبة أمام البشرية، وتنتج على الدوام أزمات وبؤر توتر أخرى، وبنية أخرى غير متبلورة بعد بأبعادها الاقتصادية والسياسية المتكاملة، بمعنى أوضح إن المجتمع البشري يمر في مرحلة انتقالية بين موت القديم وولادة جديد غير مكتمل، وهنا يكمن سرّ مجمل التشويش والتعقيد على الكوكب الأزرق.
إن تصاعد غبار الحرب في بقاع مختلفة من العالم، واستمرارنزيف الدم وتدمير البنى التحتية، وإشعال كل التناقضات دفعة واحدة، والحديث عن خرائط تفتيتية جديدة، هي بالمحصلة مظاهر تعبر عن محاولة القوى المتراجعة التحكم بالتطور الموضوعي الذي يفرض نفسه على جدول الأعمال، فتحاول إعاقته أوالتحكم به، وتوجيهه بالمسار الذي يحافظ على تبعية بلدان الأطراف للمركزالرأسمالي، وبالتالي استمرار حالة النهب الكلي والمزمن التي تقوم بها تلك المراكز لحل تناقضاتها الداخلية، على عكس دور القوى الصاعدة التي تتقاطع مصالحها مع التطور الموضوعي، وإذا كان التوازن الدولي الجديد يبدوشكلاً أنه يساهم في إطالة أمد الأزمات الاقليمية ورفع الكلف، ولكنه في حقيقة الأمر يفتح المجال لكي تأخذ الأزمة مسارها التاريخي الموضوعي، أي انفكاك الأطراف عن مراكز الرأسمال المالي.
احتياطي استراتيجي آخر!
إن ما نشهده هو بداية انفراط عقد عملية الضبط القسري السابق للعالم، الذي كان من أهم أدواته، أكبرعملية «نصب واحتيال» في التاريخ البشري قام به الرأسمال المالي من خلال فرض الدولار كعملة أساسية في السوق العالمية، وعندما باتت هذه الأداة مهددة لديمومة حالة النهب التاريخي للعالم لجأ الرأسمال المعولم إلى احتياطي آخر، وهو الاستثمار في حرب غير تقليدية، حرب من نوع خاص، لتحافظ على مواقعها المهددة، حرب تسال فيها دماء الغير، وتصرف فيها أموال الغير، وتجري على أراضي الغير، أما الرّيع فللمراكز حصراً، وخصوصاً الامريكي منه.. فلم يعد سرأً ان واشنطن تستخدم أحطّ ما في تجربة الرأسمالية الأوربية «المتحضرة» أي الفاشية بشكل علني في صراع المواقع والنفوذ مع القوى الصاعدة كما في اوكرايينا، أو توظف ذلك «اللقيط»المستولد من «كهوف الشرق» في فترات الركود والانحطاط .
التاريخي «التطرف» المقولب استخباراتياً وإعلامياً، من خلال وضع كل منجزات الثورة العلمية التكنولوجية في خدمته، أي أن زخم تدخل دوائر الرأسمال المالي العالمي في الصراعات على الساحة الدولية هو محاولة لإجهاض عملية التغيير الحقيقية التي تلبي حاجات الشعوب المعنية.
إن ما تدفعه الشعوب من أثمان باهظة في المرحلة الانتقالية، ليس نتيجة الصراع الدولي بحد ذاته، بل هو نتيجة دور ذلك العائق الصناعي أمام التطور الطبيعي الحر والمستقل للشعوب، من مراكز الرأسمالية الدولية، والنخب البرجوازية في بلدان الأطراف سواء كان بالتواطؤ المباشر في بعض الحالات، أو باستغلال المراكز رد فعل وترهل البرجوازيات الحاكمة لفرض النموذج الذي يعبر عن مصالحها في حالات أخرى.
خصائص المرحلة الانتقالية:
حسب تجربة البشرية في القرن الأخير فإن مثل هذه المراحل الانتقالية كانت تحمل جملة خصائص:
- وجود صراع أساسي بالترافق مع تناقضات ثانوية موضوعية أو مفتعلة، وتداخل وتشابك القضايا الدولية.
- تفجر كل أشكال التناقضات دفعة واحدة.
- امتداد انعكاسات الأزمة إلى مختلف بقاع العالم، بمستويات متفاوتة.
- تدمير هائل للقوى المنتجة في مختلف مناطق العالم.
- تغيير خرائط الكيانات القائمة باتجاه التفتيت أحياناً، أو باتجاه «التوسع» أحياناً أخرى.
- تحول نوعي في الوعي الاجتماعي السائد على المستوى العالمي وفي كل بلد، باتجاه السؤال عن البدائل الجديدة؟
واستناداً إلى هذه الخصائص التي يبدو أن لها قانونيتها بدلالة تكرارها أكثر من مرة وفي أكثر من مكان، يمكن فهم ليس فقط تعقيدات الوضع الحالي، بل اتجاه التطور العالمي اللاحق.
التطور اللاحق!؟
السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه على الجميع، ويقلق كل القوى الحية في الدول الطرفية هو اتجاه تطور الأوضاع، وافتراضاً يمكن الحديث عن اتجاهين:
• إما استمرار الوضع القائم بكل ما فيه من مآسٍ وويلات وكوارث إنسانية، وهذا ما يتناقض مع مصالح و إرادة الشعوب من جهة، ومع توازن القوى الجديد الذي يتوضح يوماً بعد يوم، ويكمل أدواته الاقتصادية والسياسية والعسكرية لمجابهة تلك القوى المتراجعة التي أوصلت الأوضاع الى ما وصلت اليه.
• أو القطع مع شكل وطريقة إدارة العالم رأسمالياً، وذلك حسب الظرف الملموس في كل بلد، وحسب تعقد الأزمة فيه، وهذا ما يتوقف على طبيعة القوى المهيمنة ومستوى تبعيتها للمراكز، فكل قوة وإن كانت تبدو في مواقع متقدمة على ساحتها المحلية، لايمكن أن تحرز تقدماً حقيقياً ما لم تتوافق سياساتها مع اتجاه التطور الموضوعي التاريخي على المستوى الدولي، دون أن تحجز مقعداً في قطار التاريخ على الطريق الجديد.
العالم القديم يتحطم، والجديد في مرحلة مخاض، ولكل مرحلة مخاض آلام لكن الولادة قادمة، وبالرغم من جسامة التضحيات فإن ما تدفعه الشعوب من ثمن هو أقل مما كانت تدفعه في فترة انعدام وزن القوى الصاعدة، وتجربة كل من «الصومال- أفغانستان- العراق..» تؤكد هذه الحقيقة الساطعة لمن يريد أن يرى طبعاً.