استقرارهم واستقرارنا..!

استقرارهم واستقرارنا..!

 

تتركز المعركة الآن حول التعريف الدقيق لـ «المرحلة الانتقالية» ومراحلها وتفاصيلها، بغض النظر عن الجهة أو الموقف السياسي.

 لكن يبدو واضحاً أن كل التصريحات والمواقف تتمحور في نهاية الأمر حول «المرحلة الانتقالية» كون الجميع الآن _الجميع بكل معنى الكلمة وبكل وضوح الآن بعد كل الوقت والتضحية والثمن الذي دفعه السوريون _  يتجه نحو الحل السياسي والحوار وبالتالي يصارع لحجز النقطة الأقوى في هذا السباق. ويبرز في هذه المعركة مفهوم «حالة الاستقرار» الذي من المفترض أن الجميع يريده لخير السوريين.. فالفضاء السياسي القديم يذهب في خيارات عدة في حالة المقاومة الطبيعية للتغيير وصراع البقاء الذي يعيشه هذا الفضاء الموجود في المعارضة كما هو موجود في النظام والمجتمع عموماً، تسمى معظم تلك الخيارات بـ«حالة الاستقرار». أيضاً يقول الأمريكيون والأوربيون ومن في فلكهم في المعارضة أم في النظام أن ما يريدونه هو إيصال سورية إلى «حالة الاستقرار» والتغيير الديموقراطي وفق المفهوم الأمريكي المعروف بنتائجه على شعوب العالم.

 يعني «الاستقرار» بأحد الأوجه العودة إلى الوراء ورفض فكرة التغيير الطبيعي والعمل على رسم الأمور اليوم بما يناسب بقاء الفضاء ذاته بالرسمة ذاتها، أي شروط اللعبة كما يعرفها هو، العودة إلى «الاستقرار» المرتبط عملياً ووفق الذاكرة الحيّة بالقبضة الأمنية وعقلية الحزب الواحد والدور الأبوي لجهاز الدولة لتبدو الأمور كلها تحت السيطرة والجميع منضبط وفق قوانين الدولة «العليّة»، مجتمع يسير بهدوء دون مشاكل ودون اعتراضات، الكل يحب الكل والكل سعيد، وعليه يكون الهدف من «المرحلة الانتقالية» هو نقيض الفوضى الأمنية السائدة الآن والعودة للـ«استقرار الأمني» وفقط، لكن.. ألم تبدُ الصورة هكذا في سورية قبل بدء الأزمة؟ كانت كذلك على الأقل في أعين الأغلبية الساحقة من السوريين..

ألم تكن حالة السكون المسالم تلك هي ما يطغى على نشاط المجتمع السوري وكان الاحتقان و«الحطب» يتراكم بسرعة وبشكل منتظم ومقصود ومخفي ليكوّن خزانات الانفجار ومكوّنات «الفوضى الخلاّقة»؟..

يأخذ «الاستقرار» وجهاً آخر بحيث يغير الفساد الموجود اليوم بعض وجوهه، بعض أسمائه، ويأتي الفساد القديم-الجديد ويبقى توزيع الثروة كما هو بل ويزداد سوءاً وظلماً، لخلق تلك الحالة من «الاستقرار» والتوازن القلق بحيث تكون مولداً للأزمات المتلاحقة بشكل دائم، ونافذة الاختراق للتدخل الدولي والإقليمي بمصير البلاد والعباد. كانت أوضح محاولة في هذا الاتجاه هي «الخطة ب»، التي تلخصت بالعمل ميدانياً وإعلامياً واقتصادياً على إيصال المجتمع إلى تلك المرحلة من اليأس والإحباط والخوف ليصبح مستعداً وراضياً بالقبول بالحل ولو كان بأعلى التكاليف، ولنا في اتفاق «الطائف» في لبنان أوضح نموذج محقق بحيث أصبح ذلك الاتفاق هو بذاته المسبب لكل الأزمات التي عانى منها لبنان منذ خلق ذلك الاتفاق وحتى اليوم.

منذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق وحتى اليوم، فإن الوحيدة التي تنعم بـ«الاستقرار» هي «الفوضى الخلاّقة»، وكل العراق غارق فيها، موتاً وفقراً وتهجيراً ونهباً للثروات الوطنية البشرية والمادية، فوضى ومعاناة للشعب أمنياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، هكذا يأخذ «الاستقرار» والتغيير الديموقراطي تجسيده الأمثل لدى الأمريكيين، استقرار عند حالة الفوضى الدائمة شرط التحكم به وهو ما نجح في العراق وليبيا وفشل _ حتى الآن _ في سورية نتيجة كل العوامل الموضوعية والذاتية..

«الاستقرار» بالمعنى الأولي، أي تأمين المدن والطرقات وحالة الاستقرار الأمني هو مطلب ضروري وطنياً، إذ بغير توفر هذا الشرط تبقى الحلول الاقتصادية مهما كانت صحتها وجديّتها عاجزة عن التجسد في الواقع، لكن هذا الشرط هو أحد أركان الحل السياسي، أي هو مطلوب بشرط أن يكون جزءاً مكملاً لحالة التغيير الوطني الجذري الشامل، أي أن يكون الاستقرار وعودة «الأمن والأمان» جزء من الكل، جزء من مجمل الحل السياسي وليس اختزالاً له، وإلا تكون حالة «الاستقرار» بمعناها الشكلاني الساكن الجامد حاجزاً وعامل مقاومة جدّي لحالة التغيير الضرورية وطنياً، تلك الحالة الديناميكية الحيوية المبنية على الحركة والتطور، وبالمعنى الشعبي حالة مشاركة الناس في إدارة حياتهم، تحديد مصالحهم الديموقراطية والاقتصادية الاجتماعية، وبالتالي الوطنية وخوض النضالات المطلوبة لتحقيقها. «الاستقرار» المطلوب هو في تحقيق العدالة في توزيع الثروة الوطنية، وربطها بمستوى الحريات المطلوب للدفاع عن ذلك التوزيع العادل والمصالح الوطنية بالمعنى الحقيقي والجذري،  ومرفوض حتماً ذلك «الاستقرار» بالمفهوم الأمريكي المجرّب على شعوب الأرض كافة.. الاستقرار يُبنى على رضا الشعب وبيد الشعب لا غصباً عنه ولا وفق مصالح أعدائه.