الإيديولوجيا أم البرنامج السياسي؟
انطلقت الحركة الشعبية منذ عام وأشهر سبعة بمطالب محقة، سياسية تارة واقتصادية - اجتماعية تارة أخرى، فكان لانطلاقتها أثر الصدمة على بعض النخب المثقفة والمشتغلين بالسياسة من أبراجهم العاجية، أولئك الذين لطالما شعروا أن الشعب «متخلف» لأنه لا يهضم مصطلحاتهم الكبيرة.
لم تستطع تلك الصدمة أن تحدث أثراً إيجابياً على بعض هذي النخب، إذ لم يغيروا من جوهر طريقة تفكيرهم تلك، فاستمروا بنظرتهم الفوقية إلى الشعب السوري لكنهم هذه المرة تعاملوا معه كوسيلة تخدم وصولهم بوصفهم النخب «الأفهم» إلى السلطة، باعتبار الشعب الطيب هو جمع من الناس لا يستطيع أن يقيّم البرنامج الذي تخبئه تلك الشخصيات الفذة لمستقبل السوريين، إلا أن عليه أن يقدم التضحيات بأعداد وفيرة تؤمن انتقال السلطة بعيداً عن أيدي الشعب التي اخشوشنت من كثرة الكد.
لم تبذل تلك النخب جهداً لتأخذ بيد الشارع لبناء برنامجه الذي يتعارض حقاً مع برنامج النظام، برنامج معارض بما يحمله من بعد اقتصادي اجتماعي يمس حياتهم المعاشية، ويسمح لهم بحرية تمكنهم من الدفاع عن حقوقهم وتؤسس لبناء حياة ديمقراطية حقيقية، كل ما فكرت فيه بعض النخب هو كيفية استمالة الشارع السوري الذي يتظاهر ولو كان ذاك بتملق أخطائه، تلك الأخطاء التي تركته مكشوفاً للقوى التي أرادت التسلق عليه أو حرفه عن أهدافه في التغيير الجذري.
وقد تسببت العزلة السياسية التي عاشتها بعض النخب «اليسارية» والقومية بجعلها تفترض أموراً أبعد ما تكون عن واقع الشعب السوري، فتملق كثير منهم الخطاب السياسي لمجلس اسطنبول وعملوا على نيل رضاه ظناً منهم أن الشارع السوري يسير أو سيسير خلفه إلى النهاية بناء على فكرة خاطئة تقول بأن الإخوان المسلمين هم حاملو الايديولوجيا الإسلامية وبالتالي سيلقون تأييد الشعب تلقائياً، وقد عملت بعض النخب اليسارية والقومية على افتراض بأنه لا يمكن التواصل مع السواد الأعظم من الشعب دون التخلي عن أجزاء جوهرية من أيديولوجياتهم مفترضين أنها العائق الجدي الذي ينفر الناس منهم.
في واقع الأمر تعامل الشعب السوري خلال الأزمة في اقترابه ونبذه لأية قوّة سياسية وفقاً لبرنامجها الذي تطرحه، مقيماً بالملموس فاعليتها وقدرتها على تقديم حلول واقعية للمشكلات التي يعاني منها. وما التغيرات التي طرأت على مواقف كثير من السوريين إلا عملية تجريب هذي القوى أو تلك، ومن يعش حياة السوريين عن قرب يعلم أن معظمهم لم يترددوا، تحديدا خلال الأزمة التي تعيشها البلاد في تجريب جدية كل القوى السياسية، دون أن تقف كثيراً عند خلفياتها الايديولوجية.
إن ما يحدد موقع الناس في نهاية المطاف ليس بالضرورة الموقع الايديولوجي الذي انطلقوا منه في البداية، بل البرنامج السياسي الذي توصلوا عملياً إلى أنه المعبر الحقيقي عن مصالحهم.