نحو صياغة جديدة لمفهوم الأمن الوطني
كشفت محاولة الضبط القسري للمجتمع خلال العقود الماضية، عن ضعفها وعجزها وسقطت في أول امتحان بعد عودة الجماهير إلى الشارع
فوجدت نفسها محشورة ًفي زاوية ضيقة، محدودة الخيارات، رغم تضخم الجهاز الأمني، ورغم هيمنته على أغلب مفاصل المجتمع والدولة على مدة عقود، ورغم ما منح من صلاحيات وامكانات غير محدودة، فقد تبين بحكم التجربة الملموسة أن هذا الجدار فيه ما فيه من الثغرات، لابل أنه قابل للانهيار في بعض أقسامه بسهولة.
و إذا كانت الجغرافيا السياسية، وتحديداً حالة «التماس» مع دولة الكيان الصهيوني، يبرر ايلاء الاهتمام بالاجراءات الأمنية الصرفة في بلد مثل بلدنا، واعطائه الأولوية أحياناً، فإنه لايوجد ما يبرر التدخل في كل جوانب حياة المواطن السوري، بدءاً من تسجيل الولادات وواقعات الزواج، إلى تثبيت ملكية المنازل في بعض المناطق، وموافقات السفر...
والأهم من ذلك تبلور الحقيقة التي تقول: إن الاقتصار على قبضة الأجهزة الأمنية، في حماية الأمن الوطني، أشبه بالوهم، وتبين بما لايقبل الشك أن قضية الحفاظ على الأمن الوطني أشمل وأوسع من كل أشكال الضبط القسري التي تم العمل بها في العقود السابقة.
تأتي مشكلة الفساد التي تفشت في أجهزة الدولة من أهم عوامل زعزعة الأمن الوطني، فعدا عن تأثيره السلبي على ادارة الثروة الوطنية، فإنه « أي الفساد» كوّن تلك البيئة المناسبة لكل أشكال الاختراقات التي نرى نتائجها في ظروف الأزمة الوطنية التي تمر بها البلاد. ناهيك عن ما أنتجه بيزنس« الأتاوات والعمولات» مع الشركات الدولية من علاقات مشبوهة.
تتوج الفساد في البلاد بتبني السياسة الاقتصادية الليبرالية، لتنتج ما تنتج من فقر وبطالة وتهميش وجهل، لتكون بدورها الأرضية المناسبة للتطرف بكل أشكاله، إن ابن الريف السوري الذي دمرت أسباب عيشه وعالمه الروحي، أو الذي حرم من استكمال تعليمه إثر عمليات التسرب الواسعة من مراحل التعليم المختلفة، أو الذي لم يستطع استكمال مراحل تعليمه العليا بسبب سياسة الاستيعاب الجامعي التي لانجد مثيلاً لها في العالم، أو عمال آلاف الورش التي تعطلت بسبب فتح باب البلاد على مصراعيها أمام البضائع الأجنبية، إن هذا المواطن من الطبيعي أن يغترب عن واقعه، ويلجأ إلى أكثر الأفكار تطرفاً بعد أن عجز من يحكمه في الأرض عن تلبية متطلبات حياته الأساسية، فما نلمسهُ من تطرف اليوم هو موضوعياً رد فعل على حالة القهر الاجتماعي، وانسداد الأفق امام المواطن السوري.
وعليه فإن مفهوم الأمن الوطني اليوم وفي ظروف الأزمة الوطنية والاحتمالات الكارثية لاتجاه سيرها تتطلب فهماً متطوراً لموضوعة الأمن الوطني، بعد أن تأكدت هشاشة النموذج السابق، فالأمن الوطني ليس مجرداً ومستقلاً عن الواقع الاقتصادي الاجتماعي وهذا ما يتطلب اتخاذ قرارات جريئة ومسؤولة أهمها ضرب رؤوس الفساد، العودة عن تلك السياسات الاقتصادية التي لم يستفد منها إلا حفنة من الأثرياء، وكذلك تحديد صلاحيات الأجهزة الأمنية في الحفاظ على الأمن الوطني بمعناه العام.