مرةً أخرى.. حول الفقر والبطالة

مرةً أخرى.. حول الفقر والبطالة

إن الجواب على سؤال أين هي الجذور الحقيقية للفقر والبطالة، وما هي العلاقة بينهما، يسمح بمعالجة حقيقية للموضوع.. كما أن نظرةً سريعةً على الأرقام المعلنة حول حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، مع كل الالتباس الذي يحمله هذا المؤشر كونه لا يعبر عن حقيقة توزيع الدخل بين الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، بل يعبر عن وسطي تطور الدخل كمياً بالنسبة للفرد المجرد من السكان بغض النظر عن كونه كادحاً أو مالكاً.. إن نظرةً كهذه تؤكد أن الوضع حتى من هذه الزاوية، ليس في أحسن حال.

 

فإذا أخذنا الأرقام الرسمية المعلنة للناتج المحلي الإجمالي المعلنة بالأسعار الثابتة، (أي محذوفةً منها نسب التضخم)، وإذا قسّمناها على عدد السكان الذين هم في تزايد مستمر، لتبين لنا أنها في 2009 ليست 122.747 ل.س سنوياً (بالأسعار الجارية)، بل نحو 70.000 ل.س بالأسعار الثابتة على أساس سنة الأساس عام 2000، وإذا عدّلنا نسب التضخم على أساسها الفعلي، الذي هو حسب التقديرات ضعف المعلن رسمياً، لوصلت حصة الفرد سنوياً إلى 60.000 ليرة سورية. وإذا أضفنا إلى ذلك تزايد عدم العدالة في التوزيع التي تتفاقم لعلمنا حجم المشكلة التي نواجهها، والتي لا ينفع فيها تجميل الأرقام لأنها تخفي الحقيقة وتبعد الحل..

إذاً، نحن أمام استنتاجين متناقضين جذرياً؛ إما أن دخل الفرد يتحسن، وهو بحال حصوله على 60.000 أو 70.000 سنوياً فهذا يعني أنه منذ عام 2000 تحسن بنسبة 1 أو 2% سنوياً، وهو تحسن طفيف، أو أنه تراجع فعلياً إذا أخذنا بعين الاعتبار عدم عدالة التوزيع المضطردة.

إذاً في الحالتين هناك مشكلة يجب الاعتراف بها.. وجذورها تكمن في إطار اقتصاد السوق الرأسمالي ذي الطابع المشوه السائد في الاقتصاد السوري منذ عقود، والتي تفاقمت مؤخراً..

فالحياة تؤكد بالأرقام، وحين تتحدث الأرقام، يحسم النقاش.. تؤكد أنه في ظل هذا النمط من التطور يستحيل:

ـ تحقيق أي نمو حقيقي متناسب مع ضرورات التطور، أي يستحيل نمو القوى المنتجة.

ـ يستحيل رفع مستوى حياة المنتجين الحقيقيين للثروات المادية، أي الأكثرية الساحقة من الشعب بكادحيه من مختلف أنواعهم في الصناعة والزراعة وغيرهم من أصحاب الدخل المحدود أو من ضعيفي الدخل.

ـ تستحيل إزالة التشوه في البنية الهيكلية للاقتصاد السوري بين الفروع الإنتاجية وغير الإنتاجية خاصةً، هذا التشوه الذي تؤكد الأرقام الأخيرة تعمقه.

وهذا الاستنتاج منطقي وطبيعي، وهو في سياقه انعكاس لنمط التطور العالمي الحالي الذي استنفد نفسه، وانعكس ذلك بشكل واضح في الأزمة العالمية الحالية التي هي تعبير خالص عن استحالة النمو الحقيقي اليوم في ظل درجة التمركز الذي وصل إليها الرأسمال في عالمنا المعاصر.

فبلادنا ما زالت جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية، وهي تحمل في بنية اقتصادها جميع مواصفات هذه السوق، إضافةً إلى التشوهات التي تطغى على أي بلد من بلدان العالم الثالث التي ابتليت تاريخياً بالاستعمارين القديم والجديد، اللذين حملا إليها هذه التشوهات.

إن المشكلة اليوم ليست في الفقر وحده وتعمقه واتساعه، وإنما في أنه أصبح عائقاً أمام النمو اللاحق الضروري للتطور. وهذا الفقر لكونه تعبيراً عن بنية معينة، فإنه مرتبط بالبطالة ارتباطاً عميقاً، عدا عن كون البطالة أحد دعائم الفقر.. فإنها تعبير عن ذلك التشوه في البنية الذي يمنع النمو بتوجيهه الاستثمارات القليلة أصلاً نحو الفروع الأكثر ربحية والأقل إنتاجاً والأقل استيعاباً لليد العاملة.

لذلك، فإن محاربة الفقر والبطالة أمران مرتبطان بعضهما ببعض ولا يمكن فصلهما، وإضعاف حدود تأثير أحدهما يعني إضعاف الثاني، كما أن إزالة أحدهما يعني إزالة الثاني.

ولكن كل ذلك مستحيل التحقيق في ظل نمط اقتصاد السوق الرأسمالي، إن الحياة تؤكد اليوم أن المدخل لتحقيق النمو هو التبديل الجذري في نمط توزيع الثروة عبر انتزاع إمكانية الناهبين والفاسدين الكبار من استمرار نهبهم وفسادهم، وصولاً إلى انتزاع ثرواتهم لتأمين اقتلاع إمكانية تأثيرهم على مراكز القرار الاقتصادي خاصةً، والاستفادة من هذه الثروات في عملية التنمية.

إن أي وهم بإمكانية عقلنة تطور اقتصاد السوق الرأسمالي اليوم، وخاصةً في ظل الأزمة العالمية، والتوتر الهائل في منطقتنا، إنما يعني إطالة عمر ذلك النمط الذي أثبت ضرره وعدم جدواه، بل وخطره على  القضية الوطنية العامة في مواجهة المخططات الأمريكية- الصهيونية في منطقتنا.. وعلى كرامة الوطن والمواطن.