المعارضة و«الخطة ب»..
كشفت الأحداث الدراماتيكية خلال الأسبوع الماضي، من اغتيال القيادات في العاصمة دمشق، وتصعيد عسكري لميليشيات «الجيش الحر»، عن وصول الأزمة السورية إلى مرحلة مفصلية حساسة، تعبّر عملياً عن وصول أزمة القوى الإمبريالية-الصهيونية ورأس حربتها الأمريكية وكلّ المرتبطين بها إلى الذروة التي اضطرتهم في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى لعب ورقتهم، الأخيرة ربما، أي الشروع بتطبيق «الخطة ب»، بما تنطوي عليه من تفجير الألغام داخل النظام والمجتمع، والتي كانت «مندسّة» بأمان وهدوء داخل أجهزة الدولة منذ سنوات طويلة على ما يبدو.
لم يتوانَ أعداء الشعب السوري، ممن يتاجرون باسمه وبدمه، عن إثقال كاهله بمزيد من الأعباء البشرية والمادية، والتي تفاقمت خلال الأسبوع الماضي عبر ممارسة أقصى الضغوط عليه، من خلال عاصفة عنف شلّت البلاد وقطّعت أوصالها وهجّرت كثيراً من السوريين داخل وخارج وطنهم، في تجربة مريرة أجبروا على خوضها، ولكن بقدر ما هي مؤسفة، قد تعطي بعض العزاء بأنها كشفت الكثير ممن كانوا مشبوهين في صفوف النظام وكذلك في صفوف معارضته، لينقطع الشكّ باليقين حول خيانتهم للشعب والوطن، فالأحداث تؤكّد من جديد على ما حذّرت منه المعارضة الوطنية مراراً وتكراراً من أنّ للمؤامرة أدواتها الداخلية واختراقاتها، وفي أكثر المفاصل حساسية، ولطالما كانت مرتاحة وهانئة في أحضان الفساد الكبير.
وعلى القدر نفسه من الأهمية تعطي هذه التجربة أدلّة ملموسة أكثر وضوحاً من ذي قبل عن التعري الكامل الذي أظهرت من خلاله المعارضات اللاوطنية معدنها الصدئ المسكوب في واشنطن وتلّ أبيب واستخبارات أعداء الشعب السوري الأوروبيين والعرب. فمبلغ الوقاحة والانتهازية لديهم لم يتوقف عند دفعهم الميليشيات المسلحة لمزيد من العنف بتقديم غطاء سياسي ومالي وعسكري وإعلامي، بل وصل حدّ استغلال هؤلاء المسلحين أنفسهم، ودفعهم مع بيئاتهم الحاضنة، إلى حتفهم عبر الكذب عليهم بتزييف الحقائق على الأرض، وإعطائهم معنويات وهمية بادّعاء «انتصارات» وهمية. وهذا السلوك يعاكس عملياً مساعي المعارضة الوطنية إلى المصالحة الوطنية عبر مبادراتها لاستعادة السلم الأهلي، التي تضمّ إلى جانب المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدم السوري، ووقف جميع أشكال العنف من أي طرف كان، بما في ذلك العنف ضدّ الاحتجاج السلمي، تضم أيضاً إقناع السوريين الذين تورطوا بالسلاح ثأراً ويأساً، إلى إلقاء سلاحهم واستعادة الأسلوب السلمي في النضال من أجل مطالبهم المحقة، ودخول الحوار الوطني، لأنه السبيل الوحيد لخلاص هذا الجزء من المسلحين من الظلم والاستغلال المزدوج الذي وقع عليهم، من جانب النظام أولاً عبر عقود من سياسات الإفقار والتهميش الاقتصادي-الاجتماعي، وقمع حرية التعبير، مما خلق البيئة الاجتماعية الحاضنة لهم، ثمّ من جانب المعارضة اللاوطنية التي استغلّت ظروفهم وشجّعتهم على العنف لتساهم في قتلهم مرّة ثانية.
وليس أدلّ على وصول المعارضة اللاوطنية إلى هذا الدرك من الانحطاط الأخلاقي من الأطروحة التي بدأت تردّدها مؤخراً، والتي بصقت من خلالها على كلّ التضحيات والدماء التي بذلها الشعب السوري، فقد تمخّض الجبل «الثوري» لهذه المعارضة ليلد أطروحة تعكس قمة أنانيتها وقذارتها، تتلخص باقتراحها «الخروج الآمن» لفرد أو مجموعة أفراد من السلطة بدلاً من الخروج الآمن للشعب السوري بأكمله من الأزمة، وصنع تغيير وهمي سطحي لا يمسّ التوزيع الظالم للثروة بين الناهبين والمنهوبين، بل يكرّس الجوهر الاقتصادي-الاجتماعي الرأسمالي للنظام، ولا يدخل أيّ تغيير سوى على تركيبة طبقة «القشدة» الرقيقة المالكة عبر تحاصص دسم الفساد وسلطته. وهذه النوايا لم تعد مخفية، بل أعلنتها شخصيات من هذه المعارضة العتيدة علناً على شاشات بعض الفضائيات، إذ خرجت لتقدّم التعهدات والتطمينات لـ«جزء» من النظام بالحفاظ على «مصالحه وأملاكه!».. الأمر الذي لا يتطلب الكثير من الذكاء لنعرف أنّ المُناجى بهذا الغزل هم الفاسدون الكبار داخل النظام، والمنظور إليهم من صقور المعارضة أولئك على أنهم شركاء المستقبل في نظام جديد/قديم لا يرسم للشعب سوى دور الدجاج المعدّ للبيض أوللذبح.
وهكذا فليس مستغرباً من هؤلاء الببغاوات صياحهم بشأن «أسلحة كيميائية وجرثومية محرمة دولياً» لدى الجيش السوري غداة تصريحات المجرم الصهيوني «نتنياهو» المحذرة منها، والتي عدا عن كونها محاولة جديدة للنيل من وحدة مؤسسة الجيش العربي السوري ذات الدور الوطني التاريخي كضامن أساسي لوحدة البلاد والشعب، فهي تثير إضافة لذلك تساؤلنا حول احتمال أن تكون دفعاً إعلامياً استباقياً لتبرئة «إسرائيل» من عدوان جديد على الشعب السوري، لمزيد من المتاجرة بدمه، قد تشنه بهذه الأسلحة التي سبق وأن تدرّبت جيداً على استخدامها، فما زالت ذاكرة الإنسانية تشتعل بالوميض المؤلم للفوسفور الأبيض المحرّم دولياً الذي قصفت به إسرائيل أطفال جنوب لبنان في حرب تموز عام 2006، ثمّ أطفال غزة في حربها على القطاع المحتلّ عام 2009. أمّا «المعلّم» الأمريكي فكان قد سبق ربيبته في هذا المجال، إذ يعرف شعب العراق المحتلة جيداً معاناة الفوسفور الأبيض الأميركي في الفلوجة، كما لا ينسى التاريخ ما أسفرت عنه «حماية» أمريكا للشعب الفيتنامي كيميائياً بوساطة غاز الخردل، و«حمايتها» النووية للشعب الياباني...
هل نستطيع القول بأنّ «الخطة ب» التي لجأ إليها معسكر الثورة المضادة اضطرارياً وعلى عجل قد فشلت، أو فشلت جزئياً؟ يمكن أن يكون لكشف هذه الورقة أمام السوريين، وتعثر إنجازها بالمدى والسرعة المطلوبين أمريكياً نتائج إيجابية في مصلحة الشعب السوري، إذ يفترض بأنها على الأقل قدمت محكاً جديداً للأطراف المختلفة اللاعبة في الأزمة ليتبيّن الشعب السوري أكثر النوايا الحقيقية لكلّ منها، وإذا كان لا بدّ من أن يتجمّع أعداء الشعب السوري معاً، وعلى المكشوف هذه المرة، في سدّ واحد يتشكّل من الأحجار اللاوطنية والفاسدة من النظام ومعارضته، فإنّ قوته يمكن جعلها مؤقتة، ويمكن التسريع بقهره وهدمه إذا استطاعت القوى الوطنية النظيفة بالمقابل استكمال الفرز الحقيقي وكسر الثنائيات الوهمية، والاصطفاف الوطني لتجميع روافدها الصغيرة في نهر شعبي وطني جارف كبير، وهو أمر ممكن التحقيق بالاستفادة من الظرف الموضوعي المتمثّل بأنّ مسار نهر كهذا يتفق اليوم تماماً مع حركة التاريخ.