الحريّة والغاز..
هموم جمّة تقيد المواطن السوري منذ ساعاتِ النهار الأُولى وحتى سرير نومه. من الوضع الأمني القلق الذي تشهدهُ البلاد إلى التدهور الكارثي للوضع المعاشي واشتداد الأزمة الاقتصادية الخانقة. لكن ليس هذا ما يشغلُ بالَ بعض المعارضين والساسة الأشاوس، فهم نذروا أنفسهم لقضايا أكثر أهمية، كالنضالِ في أروقة الفنادق والمقاهي الفرنسية والتركية سعياً منهم لنصرة الشعب السوري باستجداء السلاح والتدخل الخارجي، بالإضافة إلى انشغالهم باللقاءات والمقابلات التلفزيونية مستعرضين خطابهم الانشائي المعتاد عن «جرائم النظام »، باسم حقوق الانسان..
وإذا ما ابتعدنا قليلاً عن لغة العواطف وذرف الدموع، فسنجد أن لا مكان في برامج هذه المعارضات لآهات الناس وأوجاعهم الحياتية، فالأولوية بالنسبة إليهم هي إزالة رأس النظام والجلوس مكانه على الكرسي ذاته، أما في البعد الاقتصادي- الاجتماعي، فتشابه هذه المعارضة النظام إلى حد التطابق، الاختلاف فقط هو من منطلق «من يحكم!»، وكله تحت شعار الحرية..
الحرية بين الشعار والممارسة..
يقول لينين :«الحرية كلمة عظيمة، ولكن، تحت لواء حرية الصناعة شُنت أفظع حروبِ السلبِ والنهب، وتحت لواء حرية العمل جرى نهبُ الشغيلة. وكلمة (حرية النقد) في استخدامها الحالي تتضمن مثل هذا الزيف..».
فماذا يعني مفهوم الحرية بالنسبة للمواطن البسيط، لربةِ المنزل أوالموظف الحكومي. ماذا يعني أن يكون أحدنا حراً وأطفاله جياع ومرتبه الشهري لايرد الظمأ، وأين تكمن الحرية في بلد لا يملك قراره بيده أو يعتاش على معونات دول أخرى شغلها الشاغل الإستيلاء على ثروات الشعوب. ففي مصر مثلاً التي تُصور لنا على أنها نالت حريتها المبتغاة بإسقاط نظام مبارك بعد خوضها أكثر الانتخابات ديمقراطية وحرية، لا تزال معاهدة كامب ديفيد فيها قائمة والمعونات الأمريكية سارية المفعول وجيوش العاطلين عن العمل بازدياد، لنجد بأن ما وعدنا به تجار الحرية الجدد ما هو إلا العبودية بعينها ولكن بلبوس جديد.
إن ما يجري من تغييب كامل في خطاب بعض أوساط المعارضة السورية للفهم الحقيقي لمعنى الحرية، وجعلها مجرد شعار براق يرددونه على قنوات الإعلام، ما هو إلا غطاءٌ لستر افلاسهم وعجزهم عن أي طرح لحل المشكلات الإقتصادية والإجتماعية، إن الحريةَ لديهم لا تعدو كونها قناعاً أو مكياجاً للحفاظ على علاقات الإنتاج السابقة دون أيِّ تغيير في نمط توزيع الثروة، وإلا فماذا يعني تجاهلهم الوضع المعاشي المتردي للمواطن السوري واعتبار أن ذلك على هامش النضال من أجل الحرية. أين هم من تدني مستوى دخل الفرد ومشكلة السكن والبطالة والفساد وأزمة الغاز والمحروقات. وحتى إذا ما نظرنا الى جوانب الحرية الأَخرى كحرية الوطن من أي تدخلٍ خارجي، فما هم فاعلون في قضية الجولان والأراضي المحتلة وحركات المقاومة؟
إن «لواء الحرية» الذي ترفعه أغلب القوى التي تُسمي نفسها بالمعارضة، ما هو إلا تكريسٌ للعبودية، من خلال استنزاف مقدرات الناس، بهدف زيادة منسوب الإستياء والاحتقان وذلك عبر وسائل عديدة كفرض حصار اقتصادي على البلاد والعباد من الخارج باستجلاب العقوبات الاقتصادية الغربية، ومن الداخل بالدفع باتجاه الإضرابات التي أخذت بغالبيتها الطابع القسري (إضراب أو احراق)، بالإضافة الى إشاعة حالة من الفوضى والفلتان الأمني وقطع الطرق وإحراق الإطارات وغيرها من التكتيكات «الثورجية» التي لم تَضِر النظام بقدر ما أضرّت المواطن العادي بلقمة عيشه لتُعمق جراحه وتزيد آلامه..
طابور الحرية..
الحرية مفهومٌ عامٌ وواسعٌ جداً، وحتى لا يبقى هذا المفهوم مجردَ كذبةٍ أو ألعوبةٍ بأيدي أصحاب البذل الرسمية، علينا تفكيكه إلى مكوناته الأساسية. وكما يقال «الحرية هي وعي الضرورات وحلها»، فتأمين متطلبات العيش الكريم من رغيف الخبز إلى الكلمة الحرة إلى السيادة، هي جوهر الحرية. ومن لا يُعير بالاً لطابور الغاز، ولا يبالي بمصافحة العدو الاسرائيلي ولا يوفر مناسبة إلا ويشتم فيها المقاومة، ومن يعتبر أن الديمقراطية هي في إلغاء الآخر وإقصائه، فهو لا يسعى إلا للخنوع والعبودية.
مهما حاول البعض من مدّعي الثورة وتجّارها أن يرسموا لنا لوحة الحريّة التي على مقاسهم، فسيبقون أبعدَ بكثير عن لوحةٍ أُخرى فيها أناسٌ عديدون، بوجوهٍ مكفهرة وظهورٍ حانية، يقفون في صفوفٍ طويلة تحت شمس الصيف الحارقة، وعيونهم التي أنهكها الترقب تذبلُ شيئاً فشيئاً في حضرة انتظار لا فكاك منه. في هذه اللوحة يتشابه الجميع فلا فرق بين مؤيدٍ أو معارض، وحدتهم طوابير الخبز والمازوت، والآن ها هم في صفٍ واحد مرة أخرى على طابور الغاز..