عدوٌّ واحد.. ورقعة حرب واحدة
تؤكد الأيام الأخيرة اشتداد ملامح الأزمة الاقتصادية العظمى من حيث الشكل والمضمون.. ويبدو بائساً التضليل الإعلامي العالمي حول انتهاء الأزمة في أواسط العام 2009. فما إن صدر هذا التصريح حتى ارتفعت أسعار الذهب إلى تخوم 1300 دولار للأونصة، وانهار الدولار أمام اليورو، وارتفعت أسعار النفط مع تأكيدات رسمية حول تجاوز معدلات الفقر والبطالة في الولايات المتحدة الأمريكية كل الأرقام القياسية السابقة خلال الخمسين عاماً الأخيرة.. إلى جانب تصاعد حدة الصراعات الاجتماعية في كل أوروبا على أرضية هجوم حكومات الاحتكارات الكبرى على مصالح الكادحين من اليونان إلى فرنسا.
والأمر هكذا، فإن الإمبريالية (أي الرأسمالية المعاصرة)، تلجأ كما في كل مرة في التاريخ، إلى إيجاد حلول لأزمتها خارج حدودها وعبر الصراع بين المتنافسين الكبار على الكعكة العالمية، وعبر إعادة تقاسم مناطق النفوذ.. وتكمن خصوصية الصراع العالمي اليوم في محاولة الإمبريالية الأمريكية الحفاظ على هيمنتها عبر الحفاظ على دور دولارها العالمي، الأمر الذي لا تراه اليوم خارج نطاق السيطرة الاستراتيجية على مناطق مصالحها كما تدعي علناً على لسان منظّريها، من باكستان إلى مضيق باب المندب وصولاً إلى البحر المتوسط.
والواضح أن سياسة أوباما، الممثل الجديد للإمبريالية الأمريكية، تكمن في إشعال عدد لا يحصى من الحروب الداخلية في هذه المناطق ضمن منطق الفوضى الخلاقة، مستندة على تفعيل جميع التناقضات الثانوية القومية والدينية والطائفية والعشائرية.. بحيث تؤدي هذه الحروب بالنتيجة إلى ما كانت تسعى إليه الحروب العالمية السابقة، أي إلى الخروج من الأزمة وتثبيت تقاسم مناطق نفوذ جديدة.. ولكن هذه المرة بإعطاء الولايات المتحدة الحصة الأعظم المقررة في كل هذا الفضاء الجغرافي ضماناً للحفاظ على تفوقها الدائم الاقتصادي والعسكري..
ونظرة سريعة إلى أحداث الأسبوعين الأخيرين تؤكد هذه الرؤية:
ـ في فلسطين: تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إجبار السلطة الفلسطينية على توقيع عقد إذعان عبر ما يسمى بالمفاوضات المباشرة، يعطي الحجة لعرب «الاعتدال» لاعتبار الصراع العربي- الإسرائيلي بحكم المنتهي، وذلك كي يتفرغوا للعدو الجديد، وهذه المرة بالتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل تحت شعار الصراع السني- الشيعي.
ـ في لبنان: تبين أن كل الالتفافات الأخيرة، ومحاولات التهدئة الشكلية التي قامت بها السعودية وجماعة 14 آذار كانت تهدف إلى خلق ظروف جديدة لعزل حزب الله وخلق الأرضية لفتنة جديدة على أرضية المحكمة الدولية وما يمكن أن ينتج عنها..
ـ في العراق: بعد ستة أشهر من الانتخابات النيابية، تشكيل الحكومة ما زال مستعصياً، ولا آفاق واضحة لتشكيلها.. ما خلق الظروف المناسبة للتصعيد الأمني الذي يذهب ضحيته المئات من العراقيين الأبرياء، مع كل ما يمكن أن يخلقه ذلك من احتمالات انفجارات داخلية واسعة على أرضية الفوالق الطائفية والقومية التي كرّسها الاحتلال الأمريكي.
ـ في اليمن: لم ينخفض منسوب الأزمة الداخلية، وتتحايل الولايات المتحدة بدور القاعدة لخلق الحجة للتدخل المباشر باعتبار أن اليمن يمثل أكبر تهديد حسب تصريحاتها الرسمية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار صفقات السلاح الكبرى، وخاصةً مع العربية السعودية (60 مليار دولار)، إلى جانب التهديدات الأمريكية المستمرة والإسرائيلية المتصاعدة ضد إيران، يصبح واضحاً أن أي انفجار جدي في أية بؤرة من البؤر في المنطقة يمكن أن يحمل طابعاً متدحرجاً، وأن تنتقل شدته إلى البؤر الأخرى، وليس المهم هنا أين ستكون بؤرة التفجير الأولى، بل المهم هو أن مجموع هذه البؤر سيشكل في نهاية المطاف، بؤرةً واحدةً متسعة النطاق وقابلةً للاستمرار خلال فترة طويلة، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر كبرى على حاضر ومستقبل دول وشعوب المنطقة..
إن إحباط المخططات الإمبريالية الأمريكية- الإسرائيلية يتطلب إغلاق كل بؤرة على حدة، ومجموع كل البؤر في آن واحد..
لذلك تصبح المقاومة بكل أشكالها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، هي السلاح الوحيد والفعال في المواجهة.. وشكل المقاومة الملموس يحدده شكل التدخل الملموس الذي يقوم به العدو هنا أو هناك، لذلك فإن كل شكل من أشكال المقاومة لا يقل أهمية عن الأشكال الأخرى، لأن الضرورة هي التي تمليه..
واللافت للنظر في أكثر البؤر أن مقدمات التدخل السياسي المباشر والعسكري، قد أُسّس لها اقتصادياً واجتماعياً، بحيث أدى إضعاف وإرهاق المجتمع من هذه الزاوية، عبر توسيع دائرة الفقر والبطالة، إلى إنجاح الصدامات على أرضية افتعال المشكلات القومية والدينية والطائفية والعشائرية.
من هنا يصبح واضحاً أن خط الدفاع الأول ضد المخططات الإمبريالية الأمريكية- الإسرائيلية، هو في سياسات اقتصادية- اجتماعية تلبي مصالح الجماهير الواسعة وتقطع الطريق على الفوضى الخلاقة في إحداثيات أخرى.
في كل الأحوال، إن الذي يعاني من أزمته اليوم هو العدو، وهو قد دخل مرحلة الفشل الاستراتيجي، وإنّ فهم مخططاته وأبعادها بالمعنى الكلي والجزئي هو شرط ضروري لإحباطها حفاظاً على كرامة الوطن والمواطن في كل المنطقة..