هجرة الكفاءات.. مؤشر فشل سياسات التنمية
نحتاج اليوم لإجراء مراجعة دقيقة للواقع السوري بأبعاده الإقتصادية الإجتماعية والثقافية، مراجعة مبنية على أسس علمية تسمح لنا بفهم الحقائق التي أنتجتها السياسات الإقتصادية الإجتماعية ودورها في صناعة المقدمات المادية لأزمتنا الوطنية الأكبر بتاريخ سوريا الحديث
هل كانت المجابهة والمقاومة سبباً في إرهاق الدولة والمجتمع وفشل مشروع التنمية الشاملة؟ أم هي البنية الطبقية للسلطة السياسية التي إبتعدت عن الخيارات الوطنية بمعناها الاقتصادي الاجتماعي.
كوبا الشيوعية، الصين، فنزويلا، الهند، جنوب افريقيا، ماليزيا وجمهورية إيران الإسلامية، جميعها منظومات سياسية واجهت الممارسات الإستعمارية ولا تزال، لكنها إستطاعت أن تثبت حضورها التاريخي كما إستطاعت أن تُفعل عوامل التنمية الوطنية الشاملة وفق خط بياني تصاعدي رغم الإختلاف في بنيتها السياسية والعقائدية، فأين نحن من هذه المنظومات؟ وأين نحن من هذا الإستحقاق التاريخي، استحقاق التنمية والنهضة الوطنية؟
رأس المال البشري
لعل أحد المؤشرات التي تعبر عن الفشل في تحقيق تقدم في مشروع التنمية ما تسجله البيانات من هجرة للكفاءات العلمية ولقوة العمل واليد المهنية الخبيرة،
وفق بيانات سجل الأحوال المدنية في سوريا بلغ عدد السكان المسجلين في نهاية عام 2010 نحو 24.5 مليون نسمة وقدر عدد المتواجدين على الاراضي السورية نحو 20.62 مليون نسمة، أي أن ما يقارب 4 مليون نسمة وما يعادل 16% من إجمالي السكان المتمتعين بالجنسية السورية يعيشون خارج سوريا، وحسب شعبة السكان في الأمم المتحدة 10.8% من عدد السكان المقيمين (ما يعادل منهم 2.2 مليون نسمة) يتمتعون بصفة مهاجر، هجرة دائمة أو مؤقتة.
إن أخطر ما في الموضوع عدم وجود إحصائيات دقيقة عن حجم المهاجرين وتوزعهم الجغرافي، ذلك أن أغلب المهاجرين وخاصة الجدد منهم والمتواجدين في مجموعة دول التنمية والتعاون الإقتصادي (الدول الغنية والمتقدمة) يقطعون صلتهم بسوريا لأسباب أمنية أو سياسية أو إدارية في محاولة لنسيان إرتباطهم بوطنهم الأم لأسباب يمكن إرجاع معظمها للغبن الذي نالوه في وطنهم، وعندما نتحدث عن الهجرة لا يؤخذ بالإعتبار أولائك الذين طلبوا اللجوء السياسي المقدر عددهم في العالم ب18450 لاجيء.
عملياً تقسم الهجرة من سوريا وفق شكلين أساسيين، هجرة الكفاءات العلمية وهجرة قوة العمل بمختلف سوياتها الفنية. أما وجهة الهجرة فقد إتخذت الكفاءات والكفاءات العلمية العالية وجهتها بشكل أساسي نحو مجموعة دول التنمية والتعاون الإقتصادي وتعود بمجملها لأوائك الذي سافروا للتحصيل العلمي ولم يعودوا إلى بلدهم أو الذين عادوا ثم قرروا الهجرة من جديد، أما الشريحة الثانية من الهجرة فتتكون من الكفاءات العلمية والمهنية وقوة العمل وجهتها نحو دول مجلس التعاون الخليجي.
ورغم ضئالة المعومات حول المهاجرين من سوريا إلا أن مختلف الدراسات تشير إلى مساهمتهم الكبرى في حركة التقدم العلمي والصناعي في الدول الحاضنة وذلك في معرض الحديث عن دور العلماء والمهاجرين من دول النامية والدول العربية.
تؤكد التقارير الدولية أن 50% من الإجمالي العالمي للكفاءات المهاجرة نحو دول شمال أميركا هم من الأطباء القادمون من الدول النامية و 36% من المهندسين، وأن ثلاث من دول الشمال هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تستأثر بنسبة 75% من جملة تدفقات الكفاءات المهاجرة من العالم، وأن الكفاءات العربية المهاجرة تشكل ما نسبته 31% من مجموع الكفاءات المهاجرة من البلدان النامية.
الهجرة ليست خياراً ذاتياً
يشير التقارير الإقليمي لهجرة العمل العربية إلى أن أمريكا وأوربا تحتضن 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا، وتستقبل فرنسا 40% من العقول العربية المهاجرة، والولايات المتحدة 23% وكندا 10%.
لقد بلغ مخزون الكفاءات السورية المهاجرة إلى دول منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية 4.2% من مجمل الكفاءات في سوريا، وفي عام 2000 بلغ مخزون الكفاءات المهاجرة من سورية إلى بلدان منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية 143940 مهاجر (0.9% من إجمالي المخزون العام) تشكل بين الأعوام 1990 و 2000 بمعدل تراكم 8.9% سنوياً، 48% منهم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و 45 عام و 30% بين 45 و55 من العمر، أما تدفقات هذه الهجرة فشكلت نحو 16.5% ممن تراوحت إقامتهم بين 5 إلى 10 سنوات، و 35% بين 10 إلى 20 عام، و 30% تجاوزوا بهجرتهم العشرون عام، أي أن 80% منهم تعود هجرتهم لما بعد سبعينات القرن العشرين، 33.8% لم يحصلوا على التعليم الجامعي، 31.2% حاصلين على التعليم الجامعي و35% من إجمالي المهاجرين حاصل على الدراسات ما بعد الجامعية (دكتوراة)، من إجمالي هؤلاء المهاجرين55190 مهاجر يعيش في الولايات المتحدة الأميركية.
أمام حجم هذه الظاهرة لم يعد ممكناً تبرير هجرة الكفاءات على أنها إرادة ذاتية، فقد أصبحت ظاهرة حقيقية تشكل ثغرة في منظومة البناء الوطني وباتت تراكميتها تشكل خطراً حقيقياً على النهضة الوطنية.
وفق التقرير الإقليمي لهجرة العمل العربية الصادر عن جامعة الدول العربية علم 2009، وحسب مؤشر إقتصاد المعرفة العالمي جاءت سوريا في مقدمة الدول العربية الطاردة للكفاءات (سوريا، العراق، لبنان، مصر، المغرب، تونس) ونالت المؤشر 2.3 من سلم قياس العوامل الطاردة (1 سيء، 7 جيد).
المسببات والدلالات
من جملة العوامل الطاردة والمحفزة للهجرة التي إتفقت عليها الهيئات الدولية: معدل النمو السكاني وما يسببه من بطالة وأزمة عمل حتى بالنسبة للكفاءات العلمية، ضعف النمو الإقتصادي وإنخفاض الدخل القومي، فجوة الرفاه وفجوة الأمان، الحريات الفكرية، الحريات السياسية، الجهل والبيئة الإجتماعية، الفقر والبئية الإقتصادية، غياب البحث العلمي ومؤسساته، عدم توفرآفاق للإبداع والتطوير...كما تتدخل في محفزات الهجرة البيروقراطية، تخلف تقانات الإتصال، عدم توفر وسائل مريحة للنقل، التدني المعرفي والثقافي، عدم توفر الصحف ووسائل الإعلام الحرة، فقد التنافسية.. إلخ
في عام 2010 جاء ترتيب سوريا 119 في سلم التنمية الشاملة، وكان ترتيبها 97 من 133 دولة في سلم التنافسية، 117 في سلم محفزات الكفاءة، 115 في سلم عوامل الإبتكار والتطوير، كما جاءت في المرتبة 94 في سلم الفقر، 126 في سلم حرية التعبير عن الرأي و84 في سلم العوامل الطاردة للكفاءات.
حسب تقديرات World Fact Book الصادر عن CIA، تأتي سوريا من حيث تراكم هجرة الكفاءات بالترتيب 219 من 221 دولة، وحسب إحصائيات البنك الدولي وصل معدل الهجرة من سورية إلى 3.9% في عام 1990 و3.7% عام 2000 و 4.9% عام 2010. أما هجرت الكفاءات ذات المؤهلات العلمية فبلغت نسبتها عام 1990 نحو 7.5% و6.1% عام 2000 و 4% من مجمل المقيمين الحاصلين على التعليم العالي، وهذا ما تؤكده الهجرات إلى دول مجلس التعاون الخليجي حيث بلغت فيها نسبة الكفاءات العلمية المهاجرت من سوريا 17.6% من مجمل الكفاءات السورية.
وإذا كانت هجرة الكفاءات تشكل خسارة على المستوى الوطني في شوطها قصير الأمد فيما يتحمل المجتمع من نفقات تعليم وإعداد الكوادر الفنية والعلمية المهاجرة، إلا أنها تمثل خسارة وطنية كبرى بما تساهم به هذه الكفاءات من تطوير للقوة الإقتصادية للدول الحاضنة، قوة تزيد من التباين بين الدول الطارة (الفقيرة) والدول الجاذبة (الغنية)، تباين يتمثل عملياً بالعلاقة الجدلية قوة-هيمنة و فقر-هجرة.
الخلل في الخطاب السياسي
إن أشد ما يثير الريبة أن لا يعير راسمو السياسات أهمية لهذه الظاهرة، لا بل يعتبرونها إيجابية بما توفره من تدفق وعائدات مالية لخزينة الدولة بالقطع أجنبي وما تقدمه من مساعدات لأسر المهاجرين. غير أن هذا التدفق لا يمكن ان يستمر طويلاً ذلك أن قسماً كبيراً من المهاجرين يسعى للإستقرار واكتساب جنسية الباد المضيف، فمن الكفاءات المهاجرة في بلدان منظمة التنمية والتعاون الإقتصادي 98470 مهاجر حصلوا على إقامة دائمة و و 26643 حصلوا على جنسية بلد الإقامة وبات إرتباطهم ببلدهم طي النسيان.
علمياً وتنموياً يمكن تلمس مدى الخسارة التي تلحقها هذه الهجرة من عدد الأطباء السوريين المقيمين في بلدان هذه المنظمة (على سبيل المثال)، حيث بلغ عددهم (عام 2007) 4721 طبيب، أي ما يشكل نحو 16.6% من عدد الأطباء المقيمين في سوريا.
تقدر الخسائر السورية من هجرة أدمغتها العلمية بنحو 2.2 مليار دولار، بينما قدرت مكاسب الدول المتقدمة والمستفيدة من تلك الكفاءات العلمية بنحو 10 مليارات دولار.
ما يثير الشفقة الصيغ المتناقضة التي يتعامل بها راسمو السياسات تجاه هذه الثروة البشرية، فهم بين من يلعن الشيطان ودول الغرب التي تستنزف العقول والادمغة من بلدانها الفقيرة وبين من يتغنى بإنتشار الكفاءات السورية في جميع أرجاء المعمورة.
إن القضية الجوهرية تكمن في خلل الخطاب السياسي، ففي الوقت الذي تتوجه السلطة بدعوتها المغتربين في الأميركييتين للعودة والإستثمار في سوريا (إنظر لقاء وزيرة المغتربين مع الجاليات السورية في الأمركييتين) تمارس ذات السلطة سياسات طاردة للكفاءات والأدمغة المقيمة، وتدفع بمن لازال في الوطن للهروب بحثاً عن الكرامة ورغيف الخبز!
ويبقى السؤال الأساسي أليس حرياً أن تحمي الدولة من عاد ليعمل في وطنه رغم عوامل الجذب التي توفرها الدول الغنية وأن نوقف هجرة العقول قبل إرسال الدعوة لعودة من هاجر؟