هل حان موعد القصاص التاريخي؟!
يحوز الشكل الميداني للصراع على معظم التغطية الإعلامية بينما تتم سرقة هذه الدماء بخسة وإيداعها في أرصدة القوى المتنازعة تعويضاً عن غياب تاريخي أو مصلحة مفتقدة منذ مدة، فمما لا شك فيه حتى اللحظة أن ما يجري في سورية هو معركة وطنية - طبقية بامتياز ودون هذا التوصيف لا يمكن مطلقا تحديد هوية القوى المتنازعة وحدود المصالح المتضاربة.
أسئلة تاريخية:
استقر بناء الدولة في سورية في القرن الماضي على حقيقة واضحة وهي تصفية مصالح أجزاء واسعة من البرجوزاية التقليدية مع تبني موقف واضح وحاسم ضد العدو الصهيوني، وقد يكون من الصعب اليوم الحسم في درجة ترابط هاتين الحقيقتين مع بعضهما، أي التساؤل فيما إذا كان لتصفية مصالح البرجوزاية دور في قدرة الدولة على اتخاذ موقف واضح وحاسم ضد الكيان الصهيوني؟
ولكن علينا أن نتذكر دوما أن معركة الاستقلال التي خاضتها البرجوازية بكل شرف لم تكن معركة حاسمة بالنسبة للوطن فقط بل كانت حاسمة بالنسبة لوجود البرجوازية أو عدمه، فلا برجوزاية دون سيطرة على الأسواق الوطنية بالحد الأدنى. أما التطورات اللاحقة في المعركة الوطنية أي المعركة مع الكيان الصهيوني كانت تدفع بطريقة ما إلى تغير وظيفي وحاسم في مهمة واسلوب عمل البرجوازية التقليدية. فالموقف من الكيان الصهيوني هو موقف وطني وطبقي مبني على ضرورة القطع مع المركز الامبريالي الجديد وهو الولايات المتحدةوالقطع المطلوب من البرجوزاية كان يعني قدرتها على بناء دولة ذات استقلال اقتصادي واسع وقادر على مجابهة المركز الامبريالي وهذا يتضمن ايضا القطع مع مصالح البرجوازية الغربية، وهذا بحد ذاته سؤال تاريخي آخر فهل كان من الممكن أن تستمر البرجوازية الوطنية بمشروعها التحرري في ظل الهيمنة الأميركية المتصاعدة؟
طبعاً من المعروف أن البرجوزاية السورية تعرضت للعديد من الضربات القاسية كان أشرسها تأميمات عبد الناصر ولكن هذا غير كاف لحسم فكرة أن التطور الطبيعي للبرجوازية الوطنية كان قادراً على بناء مشروع تحرري في الجانب الوطني والاقتصادي. حُسم هذا الدور مع التحول الوظيفي الذي طرأ على دور البرجوازية الوطنية، فانتقلت من برجوازية ذات مشروع صناعي نهضوي إلى برجوازية تجارية تقوم على تخديم مصالح المراكز الراسمالية وقد ساد هذا الشكل في فترة السبعنيات إضافة إلى أنماط برجوازية أخرى (كالتي تعمل في التعهدات وتجارة الجملة والاستيراد والتصدير). لقد كانت فترة السبعينيات فترة انطلاق واضحة لهذه البرجوازية أمنتها سياسات الانفتاح على القطاع الخاص والتي تحتاج إلى تدقيق حول مبررات هذا الانفتاح في حينه، و عززت هذه البرجوازيات ارتباط الاقتصاد الوطني بالمصالح الغربية وقد كان شرط تطورها في حينه هو استنهاض ميل جهاز الدولة إلى الفساد ورشوته بشكل متكرر مما أنتج برجوازية أخرى توصف بالبيروقراطية حيث جعل هذا المولود الجديد من جهاز الدولة مطية لنهبها المتقاسم بين هاتين البرجوازيتين.
النصر المؤقت:
يتضح الآن الدور الذي لعبته البرجوازيات في سورية، فالبرجوازية الطفيلية أسهمت في تعزيز نزعة الارتباط مع الخارج وولدت برجوازية أخرى من رحم جهاز الدولة، أما البرجوازية البيروقراطية فقد أسهمت بتثبيت مصالح البرجوازية داخل جهاز الدولة، ترجم ذلك بالمعنى العملي لاحقا من خلال تبني النظام القائم للسياسات الليبرالية اي سياسات الانفتاح الكامل مع مصالح الغرب ورعاته الجدد من الطغم المالية، إن هذه السياسات ليست إلا تعبيراً عن تقاسم جديد للثروة بين البرجوزايات الصاعدة وإعادة تموضع لمصالح هذه القوى داخل جهاز الدولة.
إن التموضع الجديد لهذه القوى في جهاز الدولة يسعى إلى القطع مع التموضع القديم، فمن الصحيح أن جهاز الدولة أمن جزءاً فقط من مصالح البرجوازيات في فترة من الفترات، لكنه أمن أيضاً مصالح الشرائح المستضعفة ( العمال والفلاحين) ولو جزئياً،ولربما كان ثبات الموقف الوطني وسياسات الدعم ووجود القطاع العام تعبيراً ما عن مصلحة شرائح المستضعفين، ولكن وبعد تبني السياسات الليبرالية صارت هذه المصالح في تناقض واضح بين شرائح الشعب الأفقرمن جهة وبين البرجوازيات من جهة ثانية، عداك عن التناقض المتصاعد بين مصالح كل البرجوازيات المتشكلة.
إن الانفتاح على الخارج في ظل الأزمة الرأسمالية العالمية يعني بالضرورة مسعى الرأسمالية إلى تصفية دور جهاز الدولة في القضية الوطنية وفي رعاية مصالح الفئات الأفقر، بينما مازالت البرجوزاية البيروقراطية تعتاش على بقاء هذا الجهاز بشكله القائم وحتى على الموقف الوطني فهي تبنت كل سياسات كبت الحريات باسم الموقف الوطني، بينما تنزع البرجوزاية الطفيلية سواء من بقي منها في البلاد أو من خرج سابقاً إلى تصفية تاريخية لدور هذا الجهاز وشكله القائم، أي أن الانفتاح في ظل الأزمة الرأسمالية أجج الصراع بين البرجوازيات المتسامحة مع بعضها في عهد الرخاء والمتناحرة في عز الأزمات .
البحث عن النصر التاريخي:
إن درجة التناحر بين مصالح هذه البرجوازيات تنعكس في الصراع الدموي الدائر في سورية اليوم، والذي يتمخض حتى اللحظة عن سلوكات مريبة تسعى في منتهاها إلى سحق جهاز الدولة، مثلما نرى السعي إلى تفتيت الجيش ونزع الصفة الوطنية عنه من القوى اللاوطنية في المعارضة ورعاتهم في الخليج وهي ضمناً مصالح البرجوازية الطفيلية التابعة للغرب. إن وصول مصالح كلتا البرجوازيتين إلى مرحلة التناحر يعني بكل بساطة التقاء كليهما عند عقدة جهاز الدولة، فإما تصفية دوره التاريخي الوطني اقتصادياً وسياسياً أو انهيار المشررع التاريخي للبرجوازيات السورية، وهو في ذلك صراع البقاء والقصاص التاريخي من هذا الجهاز، فما لم تستطع فعله سابقاً ستفعله لاحقاً وبأعلى التكاليف. تعي البرجوزاية هذه المقولة تماماً ولذلك تسعى إلى إيجاد حل تاريخي للحفاظ على مصالحها التي باتت تتناقض مع كل الهوية الوطنية للدولة السورية، ومن هنا نلحظ عدم تورع الأطراف المتصارعة في استخدام الشحن الطائفي لتثبيت هيمنة أي منهما على جهاز الدولة وهو مايعني استخدام هذه البرجوزايات كل مكنوناتها للسيطرة على هذا الجهاز لإعادة هيكلته اللاحقة بما يخدم إنجاز مشروعها التابع للمراكز الامبريالية، وقد يكون هذا الاستخدام للخطاب والشحن الطائفي دليلاً دامغاً على عدم قدرة البرجوزاية على إنجاز مفهوم وطني مستقر تستند إليه في صراعاتها.