الديون السيادية أزمة بنيوية لا حل لها إلا بزوال الرأسمالية
◄ ستيركوه ميقري
تشير تقارير المحللين الاقتصاديين على المستوى العالمي بتتالي حدوث الانفجارات على خلفية الأزمة الرأسمالية العالمية في المرحلة الراهنة والمستقبلية، ولعل القادم منها سيكون أشد وطأة بما لا يقاس على النظام المالي العالمي مما جرى بدءاً من عام 2008 عبر ما سمي بأزمة الصكوك العقارية، والتي أصابت السياسة المالية الرأسمالية بمقتل، وأدت إلىإفلاس المئات من البنوك في مختلف أصقاع العالم الرأسمالي..
إن المعلم الجديد للأزمة والذي بدأت شظاياه تضرب العديد من دول العالم الرأسمالي، أجمع الكثيرون من خبراء الاقتصاد العالمي بأنه سيترافق مع استمرار الاضطراب المالي في أمريكا، والتباطؤ الاقتصادي في آسيا، وتداعيات أزمة الديون السيادية في أوروبا، إضافة إلى الركود الاقتصادي في اليابان، كل تلك الشواهد تجمعت وتلاقت في وقت واحدلتشكل قوس أزمات قد تعصف باستقرار الاقتصاد العالمي القائم.
إن الأزمة المالية العالمية الجديدة كما بين أحد المحللين الاقتصاديين، تبدو قريبة منا اليوم أكثر من أي وقت مضى، بل أنها تبدو أشد حدة من سابقتها في عام 2008 حين سقوط بنك «ليمان براذرز». وكل المؤشرات من الولايات المتحدة الأمريكية ودول اليورو والمملكة المتحدة إلى اليابان تشير إلى أننا نتجه نحو ركود جديد. في الأمس، كنا نظن أن بعضالمؤسسات المالية العالمية هي «أكبر من أن تنهار». لكن اليوم، تبدو حكومات الاقتصادات المتقدمة أكبر من أن يتم إنقاذها.
لقد أصاب الركود الاقتصادي فعلاً ثلاث دول أوربية هي (اليونان والبرتغال وإيرلندا) فقدت القدرة على الاستدانة، وتبدو إيطاليا وإسبانيا في الطريق للحاق بها.
فإذا أثقلت المديونية في الأزمة السابقة كاهل القطاع الخاص في البلدان الرأسمالية، مما أدى إلى تدخل الحكومات لإنقاذه، فإن أزمة الديون السيادية التي أصابت العديد من دول العالم الرأسمالي، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر أكبر اقتصاد في العالم، ستزيد من مشاكل هذه الدول لتتحول من أزمة عابرة إلى أزمة بنيوية، تتخطى التخبطاتالقصيرة الأجل، وحلها لن يكون سهلا أو سريعا. ذلك أن الحل يتجلى فقط بتخفيض حجم الدين، وهذا يتطلب سنوات طويلة، فإذا علمنا أن فنلندا تعتبر من أقل الدول مديونية في أوربا، وحجم ديونها السيادية في نهاية القرن الماضي بلغ %45 من ناتجها المحلي السنوي، لم تستطع أن تخفضها خلال 10 أعوام إلا إلى %39 فقط، أي أنها تحتاج إلى 65 عاماأخرى لكي تسدد ديونها السيادية بشرط ألا تستدين قرشا واحدا خلالها، وعلى هذا الأساس فإن اليونان مثلا والتي تجاوز حجم مديونيتها الـ%100 من ناتجها السنوي ستحتاج إلى قرون للتخلص من وطأة هذه الديون، وهذا يشمل أيضا كل الدول الرأسمالية الأخرى، وقد يتساءل البعض ما المقصود بالديون السيادية، وقد بدأنا نقرأ هذه العبارة بشكل شبهيومي في الصحف ونسمعها في محطات الإذاعة ونشاهدها على محطات التلفاز وما هو الفرق بينها وبين الديون الحكومية، ولماذا تنشأ مثل هذه الديون، وكيف يمكن معالجة مشكلة الدين السيادي؟!.
الديون السيادية
الديون السيادية تتراكم عندما تعجز الحكومة عن تمويل موازنتها بمواردها الذاتية، فتضطر إلى الاستدانة عبر إصدار ما يسمى بـ(سندات الخزينة) وهي نوعان: الأول وهي السندات التي تصدرها بالعملة المحلية (وهذا ما ستفعله حكومتنا في تمويل موازنة 2012) وغالباً ما تكون هذه السندات موجهة نحو المستثمرين في السوق المحلية، وفي هذه الحالةيسمى الدين الناجم عن عملية الإصدار الدين الحكومي، والثاني عندما تصدرها بعملة غير عملتها المحلية، والتي غالبا ما تكون بعملة دولية مثل الدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني، ويطلق على الدين الناجم عن هذه العملية عبارة «الدين السيادي»، وعلى ذلك فإن الفرق بين الدين الحكومي والدين السيادي هو في طبيعة عملة الإصدار التي يتم علىأساسها اقتراض الحكومة وفي أمريكا ودول اليورو الأوربية تتساوى الديون السيادية والديون الحكومية باعتبار أن العملة المحلية فيها أصلا عملة عالمية قابلة للتداول بحيث يصبح حجم الدين أكبر مما هو معلن حاليا.
وهنا لا بد من التفريق بين ما تسمى بـ(سندات الخزينة وأذونات الخزينة)، فما يميز سندات الخزينة عن أذون الخزينة هو أن السندات تطرحها الدولة للاقتراض من المؤسسات والأفراد لمدة طويلة مقابل عائد سنوي وتنظم هذه العملية عن طريق وزارة المالية، أما أذونات الخزينة فهي قرض قصير الأجل لمدة لا تزيد عن 3 شهور بمقابل فائدة عن هذه المدة.
وتكون الحكومات أمام أزمة ديون سيادية عندما لا تستطيع أن تؤمن موارد مستمرة وثابتة بالعملات الأجنبية ، أو عندما تنخفض إيراداتها المخطط لها بالعملات الأجنبية ويحدث ذلك مثلا للدول التي تعتمد على صادراتها النفطية عند حدوث هبوط عالمي حاد بسعر برميل النفط، أو عندما تنخفض تحويلات مواطنيها بالخارج بالعملات الأجنبية عند الدولالأخرى، حينئذ تفشل الحكومة في خدمة ديونها المقومة بالعملات الأجنبية لعدم قدرتها على تدبير العملات اللازمة لسداد الالتزامات المستحقة عليها بموجب الدين السيادي..
أزمة الديون الأوروبية
وباعتبار أن طبيعة هذه الأزمة بنيوية وليست طارئة فإنها أصابت مجمل الدول الرأسمالية، وخصوصاً في أوربا وأمريكا، فقد تجاوزت حجم الديون السيادية في أمريكا أكثر من 15 ترليون دولار، وهي أعلى بقليل من نسبة %100 من الناتج المحلي الأمريكي، ويقدر حجم ديون دول منطقة اليورو الـ 17 بنحو 7.9 تريليون يورو (11 تريليون دولار) أو مايعادل %85 من إجمالي حجم اقتصاد تلك الدول البالغ 9.2 تريليون يورو (12.5 تريليون دولار). هناك دول وضعها المالي غير مستقر منها اليونان والبرتغال وايرلندا وإسبانيا وإيطاليا... حيث يبلغ إجمالي ديونها مجتمعة نحو 3.1 تريليون يورو (4.3 تريليون دولار) مما يهدد وضع القطاع المصرفي في أوروبا، والذي دفع الاتحاد الأوروبي والبنكالمركزي الأوروبي إلى البحث عن حلول مناسبة وذلك عن طريق تفعيل دور صندوق الاستقرار النقدي الأوروبي الذي تبلغ قيمته 440 مليار يورو (600 مليار دولار ) ليشمل ضمان إصدار السندات السيادية وشراء بعضها بالإضافة إلى ضخ السيولة في القطاع المصرفي عن طريق إقراض البنوك مباشرة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أكثر دول العالم التابعة للنظام الرأسمالي لن تنجو من آثار هذه الأزمة، وعلى سبيل المثال دول الخليج العربي التي لم تسلم أسواق الأسهم فيها من موجة الخسائر المحتملة ،حيث انخفضت القيمة السوقية لها بنسبة %5.4 لتسجل الأسواق الخليجية مجتمعة خسائر وصلت إلى 40.5 مليار دولار خلال الربع الثالث من العامالحالي.
ما الحل؟
إن الحل الوحيد لهذه الأزمة كما أجمعت عليه المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد الدولي ونادي باريس والبنك المركزي الأوربي وغيرها) هو التقشف من خلال خفض الإنفاق الحكومي لأدنى مستوى له، ولكن لهذا الحل منعكسات سلبية هائلة، إذ سيؤدي إلى ركود اقتصادي بدأت ملامحه بالظهور وإلى تثبيت أو خفض أجور العاملين لسنوات مديدة،كما سيؤدي إلى تسريح مئات الآلاف من الموظفين والعمال مما يعني زيادة في نسب العاطلين عن العمل، والى ازدياد نسبة الفقراء وتصبح الحكومات حينئذ في خدمة الرأسمالية الجشعة والمصارف التي لا حدود لنهبها ويصبح هذا الحلف غير المقدس بين المال وبين السياسة منتجا للفقر والغنى معا %99 من الفقراء و %1 من الأغنياء .
لقد أصبح النظام الرأسمالي نتيجة هذه الأزمة والحل المقترح لها، نظاماً ليس ديكتاتورياً فقط، بل متوحشا بكل ما لهذه الكلمة من معنى يأكل الأخضر واليابس، وأضحى على شفير هاوية حقيقية، وما يجري الآن ليس إلا انهياراً للرأسمالية من داخلها، وإذا تمكنت الرأسمالية سابقاً من الخروج من أزماتها السابقة فإنها الآن أمام أزمة تهدد وجودها كنظام عالميكما تنبأ كارل ماركس في القرن التاسع عشر وذلك للأسباب التالية :
-1 تمركز الثروة في أيدٍ قليلة من الناس لا تتجاوز %2.
-2 نشوء تحالف شيطاني بين النظام المالي والنظام السياسي على حساب باقي جماهير الشعب.
-3 انخفاض مستوى الديمقراطية إلى أدنى مستوياتها خدمة للرأسماليين، وذلك من خلال فرض الحلول نفسها لحل الأزمة، يستفيد منها الأشخاص أنفسهم دائما، في حين أن الملايين من البشر خسروا بيوتهم وأعمالهم وأموالهم وأمنهم نتيجة هذه الحلول، وعلى سبيل المثال فإن 40 مليون أمريكي يعيشون تحت خط الفقر الأدنى في بلد يعدُّ اقتصاده أكبراقتصاد في العالم.
لهذه الأسباب مجتمعة جاءت الانتفاضات الشعبية في البلدان الرأسمالية، والتي انفجرت الآن تحت عنوان (احتلوا وول ستريت)، حيث عمت الاحتجاجات 1000 مدينة في العالم، وهي مستمرة في كل أصقاع النظام الرأسمالي والدول التابعة له، وكأنما الربيع العربي ينتقل إلى أمريكا وأوربا وأمريكا اللاتينية وآسيا واستراليا، وإذا كان روبن هود الذي فكر فيحل مشكلة الفقر يوما ما فكان يسرق أموال الأغنياء ليعيد ضخها إلى الفقراء، فإن هذا الحل غير ممكن الآن، بل إنه يكمن في وأد الرأسمالية وإعادة الاعتبار للحل الإنساني الذي قدمه المعلمون الأوائل ماركس وإنجلز ولينين، وهو الاشتراكية.. والاشتراكية فقط!.