الوضع العربي بين العاطفة والواقع
ماجد ابراهيم ماجد ابراهيم

الوضع العربي بين العاطفة والواقع


ليس لأحد أن يلوم الملايين من أبناء الدول العربية الذين ملأؤوا الساحات وبحّت حناجرهم بنشيد الأمل، وارتوت الأرض بدماء بعضهم، على ما نحن أمامه من واقع مفزع بدأ يرتد وبالا على صانعي الحدث هؤلاء، وعلى الدول ذاتها كياناً ومجتمعاً ومصيراً. 

نعلم تماماً بأن مانقول لن يرضي البعض ممن جرفه التيار واخذته العاطفة والحماس، والتبس عليه الفعل والنتيجة. هناك من انبهر بالحراك وضجيجه والعصف الذي ضرب المنطقة، وهلل لصوت الرصاص والمدافع وقاذفات القنابل. إنهم ينتشون من صور المقاتلين مسلحين بكل وسائل القتلوالتدمير ويمزقون جثث الابرياء ويغتصبون النساء، ويدعون «الأصدقاء» للتدخل بالمال والعتاد والرجال. إنها بالنسبة لهم «ثورة» لإسقاط الأنظمة وبشائر «الديمقراطية» التي لا بد وأن تأتي كحصاد أخير. لا لوم على البسطاء من العشوائيات والقرى والمقالع والمصانعوشوارع المدن، ولا على الشباب المغيب العاطل والمعدم، أو أولئك الذين قصم ظهورهم الفساد والاستبداد وسلطة المال. بل العلة في القوى السياسية التي انحدرت إلى مستوى العامة وتاهت أمام هول الحدث وتنازعتها الانتهازية وإغراءات السلطة والمال الفاسد، اللوم علىالمثقفين وأشباههم ممن اختلط عليهم الثقافي بالسياسي، وتعاطوا مع الأحداث بأدوات المثقف وعواطفه بدل أدوات التحليل السياسي والمنطقي. هناك بين هؤلاء من هرول إلى الإثراء على حساب المبدأ يتنقل بين العواصم والشاشات والسفارات الأجنبية ويضج صراخاًوشعارات جوفاء، يرمي الوطن بسهام الغدر ويستجدي الدخلاء، فلتحترق الأرض وتبور كي تأتي المغانم وكراسي السلطة.

لم يكن للنشوة من حدود، انتصرت «الثورة» في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية في الطريق، وفي البحرين هناك من استوطن الشارع منذ أكثر من عام في «ثورة دائمة» بانتظار ساعة النصر !! غير أن تونس التي أعتبرت أنموذجا للثورة السلمية والأسلوب الحضاريللتوافق في تشكيلات السلطة انكشفت عورتها أمام الأصولية والإرهاب وكذبِ الإسلام السياسي « المعتدل « الذي يمثله الغنوشي وتواطئه مع السلفيين المنفلتين بالسلاح لخنق الحريات الشخصية وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، والاعتداء على الإعلام والإعلاميين والفنانينوالجامعات. وفي ظل تردي الأوضاع المعيشية وازدياد عدد العاطلين عن العمل والشلل الاقتصادي وخاصة في القطاع السياحي، يمكن أن نتصور المصير الذي ينتظر المجتمع والدولة التونسية. في مصر يقترب المجتمع نحو الهاوية يدفعه إليها الصراع بين مختلف القوىالسياسية وزحف الإخوان المسلمين والسلفيين على السلطة، وانتعاش بعض رموز النظام السابق جماهيريا، وتكتيكات مراكز القوى الأمنية والعسكرية، والمال المستورد والتدخلات الخارجية من كل لون. في اليمن تنزف الدماء وتقترب البلاد إلى حافة المجاعة والحربالأهلية، وتبقى مراكز القوى في الجيش والقبائل، ويكابر الرئيس السابق ويستمر في تقرير العديد من شؤون الحكم والدولة مباشرة أو من خلال أبنائه وحزبه وشيوخ عشائره، وتضيع سيادة الدولة بتدخلات أمريكية واقليمية. في سورية ذاب الحراك الشعبي السلمي المشروعبأهدافه في التغييير الديمقراطي وإنهاء هيمنة الحزب الواحد والفاسدين من لصوص المال العام، في الحرب الدموية التي تورطت فيها أطراف عدة في السلطة وبعض المعارضة والقاعدة وأطياف من السلفيين ومرتزقة ومال وسلاح من كل صوب، ويتصاعد لهيب حرب أهليةتتغذى بتحضيرات لحرب تزداد احتمالاتها ولا يمكن لأحد التبؤ بنتائجها. السفيرة الاميركية لدى الأمم المتحدة سوزان رايس تعلن على الملأ بأنه «إذا لم يتخذ مجلس الأمن الدولي إجراءات سريعة للضغط على سورية فان الدول الأعضاء في المنظمة الدولية قد لا تجد أمامها منخيار سوى التحرك خارج إطار الأمم المتحدة» وتؤكد دون لبس السيناريو الذي نحذر نحن منه، وتبتغيه رايس ومن تمثل وهو، حسب تصريحها، «أن العنف سيتصاعد والصراع سينتشر ويشتد، وتتورط فيه بلدان المنطقة ويتخذ أشكالاً طائفية على نحو متزايد، وتصبح لديناأزمة كبيرة لا في سورية وحدها وإنما في المنطقة كلها». هذا بعض من المصير الذي نهرول اليه بإرادة البعض ورغماً عن إرادة الشعوب. ومع ذلك تًجند الكثيرون من المنظرين وأصحاب الفتاوى يتهافتون على الشاشات ووسائل الإعلام الأخرى ينادون بالمزيد من المواجهةويحشدون الراي العام العربي والعالمي والمنظمات الدولية في مجال حقوق الإنسان ليتناسق ذلك مع كل أشكال الضغوط النفسية والإقتصادية والسياسية على البلدان التي يستمر حجز أموال بعضها في البنوك الأمريكية والغربية. جميعهم مع «الثورات» العربية والديمقراطيةوحرية الاختيار. إنه تناغم غريب بين معارضن ومثقفين من اليمين ومن اليسار والليبراليين والأصوليين والتكفيريين ورجال المال والسلطة. دول ومنظمات دولية تعمل بمعايير مزدوجة، تناصر هذا وتخاصم ذاك حسب البوصلة الأمريكية والأطلسية، فنحن لا نرى مواقفضد الإحتلال الإسرائيلي وجرائمه وقضمه المستمر للأراضي الفلسطينية، ولم نسمع يوما لا في هذه المنظمات ولا في الإعلام الغربي «الحر» أي صدى للتصفيات الجسدية الممنهجة للصحفيين والمعارضين في الهندوراس على إثر الإنقلاب المدعوم أمريكيا على رئيسهاالمنتخب عام 2009، ولا عن القمع الذي تمارسه الحكومة التركية ضد الأكراد المطالبين بأبسط الحقوق القومية، وضد المثقفين والإعلاميين ممن يعارضون سياسات حزب الحرية والعدالة الداخلية والخارجية. لا صدى لمعاناة الناس وطموحاتهم في الحرية والعدالة في أي مكانيقع في دائرة الهيمنة الأمريكية والأطلسية إلا اذا كان يخدم استراتيجيات محددة.

المعضلة في السياسيين الذين لا يرون أن البلدان العربية وفي مقدمتها مصر تواجه كارثة التمزق المجتمعي ودوامة عنف ليس آخرها الإعتداء على مقر المرشح الرئاسي أحمد شفيق وحرق مقره، وتهديدات مرشح الإخوان بأنه «سيدوس خصومه ويرميهم في مزبلة التاريخ»،ورفض غالبية القوى لنتائج الجولة الأولى للإنتخابات، والإعلان سلفا برفضها والنزول الى الشارع إن لم يصل مرشحها الى كرسي الرئاسة. أية ديمقراطية ستنبت في مجتمع بهذا التكوين الاجتماعي والايديولوجي والنفسي حيث سحقت النفوس باستبداد الأنظمة، وبقي الجهلوالأمية سادة العقول، وتداخلت مصالح القوى السياسية بالمصالح الأجنبية، وتركت الجماهير المعنية بالتغيير مقسمة ودون قيادة وطنية جامعة وقادرة على إدارة معركة التغيير بأقل الخسائر ومن دون التفريط بالسيادة الوطنية!