«المؤسسة» الدولية.. وانتهاء الصلاحية!
في اللحظة التاريخية الراهنة، تجري ترجمة التراجع الأمريكي الاقتصادي، الذي بدأ قبل أعوام، في الميادين السياسية والعسكرية؛ فبعد انفجار الأزمة الرأسمالية العالمية، في العام 2008، التي كانت كامنة قبلاً، توالى ظهور الدلالات السياسية والعسكرية التي تؤكّد التراجع الأمريكي الاقتصادي
الدلالات تلك ظهرت في طريقٍ متعرج، ولكن بميل ثابت، وضع أمام العالم استحقاق صياغة شكل جديد للتوازن الدولي لا بدّ له من أن يلحظ التراجع الأمريكي..
لم يعد التوازن الدولي السابق، بواجهاته المتعدّدة، يعكس ميزان القوى الدولي الحقيقي، الذي تصعد فيه قوىً جديدة، شرعت فعلياً بممارسة دورها على المستوى الدولي، كروسيا والصين، وعلى المستوى الاقتصادي أيضاً، كمجموعة «البريكس»، التي تضم الدولتين المذكورتين أيضاً. الظهور الأول لدور القوى الجديدة كان في أحد محافل النظام العالمي القديم، «مجلس الأمن»، والذي تمثّل بالفيتو الروسي- الصيني، الذي منع الغرب من التدخّل العسكري المباشر في سورية. تلك الخطوة، التي عكست توازناً دولياً صفرياً في حينه، عطّلت، من حيث الشكل، «مجلس الأمن» عن الاستمرار في ترجمة التفرّد الأميركي في القرار الدولي، ومن حيث المضمون أوقفت أمريكا عن اتخاذ قراراً دولياً منفرداً، حتى خارج مظلّة مجلس الأمن، فمثّلت في المحصلّة موقفاً دفاعياً ناجحاً في مواجهة الولايات المتّحدة، أسس ويؤسّس إلى بلورة التراجع الأمريكي وتثبيته، وتقدم الأطراف المقابلة، وانتقالها إلى موقع الهجوم.
ومع استمرار تراجع الولايات المتحدة الأمريكية، سياسياً وعسكرياً، يشتدّ التناقض بين مضمون التوازن الجديد وبين شكل التوازن الدولي القديم، الذي تعكسه مجموعة من المؤسسات الدولية والإقليمية: «الأمم المتحدة» و«مجلس الأمن»، المنظمات الاقتصادية كـ«منظمة التجارة العالمية» و«صندوق النقد الدولي»، وحتّى الأحلاف العسكرية الكبرى كـ«حلف لناتو»، الذي أحبط ميزان القوى الجديد تدّخله في الساحة العالمية، في سورية مثلاً، وأيضاً بعض المنظمات الإقليمية كـ«مجلس التعاون الخليجي»، في منطقتنا، الذي تشكّل في ثمانينيات القرن الماضي كتعبيرعن وحدانية النفوذ الأمريكي في دول الخليج العربي. فقد أصبح دور كل هذه المؤسسات الدولية والإقليمية، وغيرها، يفقد شيئاً فشيئاً فاعليته على الأرض، فيما تتصاعد أدوار دول وقوى جديدة، ليست «مرسّمة» بعد بالعقد الدولي القديم.
وفي منطقتنا، انهار النظام الرسمي العربي منذ عقود، هو من نتاج توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن ذلك لم يعنِ انهيار الأنظمة العربية فوراً، بل استحوذت بعضها على بقايا دور النظام العربي الرسمي، ومن هذه الزاوية بالذات ظهر «مجلس التعاون الخليجي» كتعبير عن الأحادية القطبية الأميركية، وقتذاك، وساد هذا الوضع منذ أوائل الثمانينيات، ولكننا اليوم نشهد تراجعاً في دور هذا «المجلس»، على الرغم من كونه مدعوماً من النظام الدولي القديم، يظهر ذلك التراجع من خلال فشل الحكومات الخليجية في مواصلة تنفيذ السياسات الأمريكية، المأزومة أصلاً، وازدياد حدّة الخلافات بينها نتيجة لذلك. يقابل ذلك التراجع تقدم الدور المصري الجديد، الذي يجري على نحوٍ هادئ وثابت في آن واحد، ويَحل محل الأدوار السابقة بالتدريج.
وبما أنّ الواقع يتطلب دوماً أن يتناسب شكل أي ظاهرة مع مضمونها، فليس أمام واجهات النظام الدولي القديم إلّا أن تواجه المتغيرات، التي باتت تجري على نحو مقونن، والتي تتمثّل بتراجع الدور الأمريكي وظهور أطراف أخرى تملأ الفراغ. وأمام استحقاقات اليوم تواجه مؤسّسات النظام الدولي القديم ثلاثة احتمالات: فإمّا أن تبقى، ولكن مع تحوّل وظيفتها ودورها جذرياً؛ إذ أن بعض الأطر الدولية اليوم يمكن لها أن تعكس من الناحية الشكلية ميزان القوى الجديد، ولا سيما مع تعزيز مسار التوافقات الدولية والحلول السياسية والسلمية. وإمّا أن تبقى بعض الواجهات ولكن مع انعدام دورها ووظيفتها بالكامل- كما حصل مع جامعة الدول العربية خلال العقود السابقة-. أو أن تتلاشى وتزول بالكامل، وذلك عندما يدخل شكلها في تناقض صارخ مع طبيعة العالم الجديد، ولا سيما الواجهات الاقتصادية، التي شكّلت مدخلاً لأزمة النظام العالمي القديم.