مؤتمر جنيف ٢: دبلوماسيات تتحارب خارج حلبة التوازن!
تفيد القاعدة الذهبية المستخلصة من تجربة انعقاد المؤتمرات المتعلقة بالأزمات الدولية، بـ (أن من يكون جزءأ من المشكلة يجب أن يكون مساهماً في الحل)، وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن يكون طيف حضور المؤتمر الدولي الخاص بالأزمة السورية واسعاً إلى هذا الحد، ومن الطبيعي أيضاً ان تنعكس كل تناقضات المواقف التي أسست للأزمة في كلمات الوفود، ليترك هذا المظهر انطباعاً سلبياً لدى المتابعين بأن الجلسة الأولى لم تكن إلا تمسكاً من الأطراف المختلفة بمواقفها... الأمر الذي طرح على بساط البحث السؤال عن جدوى المؤتمر من أساسه، وربما كان ذلك مسعى البعض بعد أن فرض توازن الأمر الواقع خياراته على الجميع بضرورة عقد المؤتمر العتيد؟!!!
في الأهمية التاريخية للمؤتمر:
يكتسب المؤتمر أهمية تاريخية لعدة أسباب:
إنه المؤتمر الدولي الأول لحل أزمة داخلية في ظل توازن القوى الدولي الجديد.
إنه إقرار من مختلف الأطراف المشاركة بأهمية الحل السياسي الأمر الذي يعني ضمناً الإقرار بأن الخيار العسكري لا أفق له.
إنه الأداة الوحيدة للحل السياسي للأزمة السورية بعد وصلت البلاد إلى مرحلة تهديد وحدتها الجغرافية والسياسية.
واشنطن وشعرة معاوية:
ما حدث في قاعة المؤتمر، بدا أنه امتداد لما يجري في الميدان منذ ما يقارب ثلاث سنوات.. فواشنطن التي كانت طرفاً مباشرأ على امتداد عمر الأزمة السورية وضعت نفسها في المؤتمر وعلى لسان وزير خارجيتها جون كيري في الموقع ذاته، الجديد الجوهري فيما بين سطور خطاب رأس الدبلوماسية الأمريكية هي محاولة قول الشيء وعكسه معاً، فمن جهة (يجب إنهاء معاناة الشعب السوري ... ولا بد من التوافق) ومن جهة أخرى محاولة فرض نتائج مسبقة على المؤتمر(بشار الأسد لايمكن أن يستمر...)، لتتجاوز بذلك دور الراعي الافتراضي للمؤتمرالذي يستوجب الحيادية على الأقل بروتوكولياً.. البراغماتية الأمريكية لم تقطع شعرة معاوية مع أحد، بل حاولت ابتزاز الطرفين النظام والمعارضة، ومن الجدير بالذكر أنه كان هذا دأب الإدارة الأمريكية منذ بداية الأزمة حيث دشنت سلف كيري السيدة (كلينتون) آنذاك الموقف الأمريكي بالمقولة الشهيرة: (على النظام السوري تغيير سلوكه في الملفات الاقليمية)... بروباغندا الدبلوماسية الأمريكية من خلال التباكي على الدم السوري والمديح المجاني للائتلاف و للجربا تحديداً ومحاكاة نزعة البداوة لديه، يؤكد مرة أخرى حقيقة التخبط الأمريكي ولا يلغي أن كيري ومعاونيه قادوا الجربا وائتلافه إلى جنيف بـ (العصاية) مكرهاً على ذلك ـ وإذا كانت لهذه البروباغندا من نتيجة فهي لاتتعدى سوى الاستفادة من (غباء) المعارضة الخارجية كحصان أمريكي لدفع عربة الأزمة السورية نحو هاوية أخرى من خلال الانسياق وراء الوعود الأمريكية كما كان حالهم منذ بداية الأزمة، فالاستثمار في الأزمة السورية عبر هذا النموذج من المعارضة كان ومازال أداة امريكية للحفاظ على شيء من مواقعها في سياق عملية التراجع المفروضة عليها على خلفية أزمتها الاقتصادية الخانقة.
روسيا.. دبلوماسية تسجيل النقاط:
من الواضح أن روسيا تنظر إلى الملفات الاقليمية - ومنها سورية - من زاوية التوازن الدولي الجديد، وتعمل على تثبيته والاستناد عليه وجعله محور العمليات الجارية في العالم.. فبعد التأكيد على حق الشعوب في التقدم وبناء حياة أفضل.. أكد لافروف: ( إن الحوار الدولي يجب أن يواكب التحولات الداخلية للمجتمعات، أما فرض الوصفات وتجارب الهندسة الاجتماعية يجعل هذا التقدم ينتكس .. يجب تأمين الأجواء للشعب السوري كي يحدد مستقبله..) إذاً فإن إحدى الوظائف الأساسية للمؤتمر حسب رأي الدبلوماسية الروسية هي لجم عملية التدخل الخارجي بكل أشكاله، وتالياً إعادة مركز الثقل إلى الداخل السوري، واعتماد نموذج جديد في العلاقات الدولية بعد عقدين من الاستفراد الامريكي بالقرار الدولي في يوغسلافيا-افغانستان - العراق..
لقد نجحت الدبلوماسية الروسية في استدراج الجميع إلى قاعة المؤتمر، وقدمت في هذا السياق تنازلات تبدو كبيرة، (تغييب إيران مشكلة وليس كارثة إيران) و(المعارضة الوطنية السورية يمكن أن تساهم في أعمال المؤتمر لاحقاً) - ولكنها في الحقيقة تبقى تنازلات جزئية أمام أهمية عقد المؤتمر الدولي لأن مجرد انعقاده يعني تغيير التموضع الحالي لكل القوى، (التنازلات الروسية) كانت دائماً توظف باتجاه سحب البساط من تحت أقدام من يحاول عدم عقد المؤتمر أو تأجيله مرة أخرى بغية استمرار النهج السابق في العلاقات الدولية، أي التدخل بشكليه المباشر وغير المباشر، الأمر الذي يعني عدم إنجاز أي شيء داخلي، لابل الارتداد إلى الخلف.
الدبلوماسية المهزوزة:
السعودية التي كفت عن أن تكون صوتاً ناشزاً في الاوركسترا الأمريكية وحضرت مؤتمر جنيف بعد فترة (حرد) من الشقيق الأكبر الذي خذلها في العدوان المباشر على سورية، وفي الاتفاق المبدئي مع إيران، حاولت ومن خلال دبلوماسيتها المهزوزة شكلاً ومضموناً اللعب على الخطوط الحمراء، عبر المقدمة الاستفزازية واعتبار كلمة الجربا في المؤتمر (حق لايأتيه باطل)، والتفسير الأحادي الجانب لبيان جنيف والتحكم المسبق بنتائج المؤتمر، والعزف على الوتر الطائفي.. ليكشف بذلك عن حقيقة ان السعودية لاتعرف أو تتجاهل حقيقة قائد الاوركسترا (الأمريكي) وحالة التراجع التي تتحكم بسلوكه في كل الملفات الاقليمية، وأن عليه أن يتكيف او سيُكيّف مع التوازن الدولي الجديد.
دبلوماسية الفرص الضائعة:
استحق النظام خلال سنوات الأزمة وبكل جدارة لقب بطل الفرص الضائعة، فأضاع الفرصة تلو الأخرى للخروج من الأزمة بأقل الخسائر، وكان على الدوام يتجاهل دور العوامل الداخلية للأزمة ليتحدث فقط عن المؤامرة والتدخل الخارجي، ويمكن القول إن هذا المنطق انسحب على كلمة الوفد السوري في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، فالمقدمة الوجدانية المطولة لم تغيّر شيئاً في وكر الذئاب، والمكابرة لم تعد مجدية في وطن أصبحت الحقيقة كصورة أي شهيد مدني أو عسكري معلقة على جدران كل بيت من بيوته.... لايمكن لأي وطني سوري إلا أن يفرح لرد وزير الخارجية على وقاحة جون كيري، وسفالة آل سعود.. إلا أن المواجهة الحقيقية والملموسة في مكان آخر حسب رأي بعض المحللين ..كان يمكن للدبلوماسية السورية أن تستغل فرصة انعقاد المؤتمر للبدء بهجوم معاكس، والإعلان عن الاستعداد لتقديم تنازلات ملموسة للشعب السوري وليس لأحد غيره فيما يتعلق بشكل إدارة الدولة والمجتمع تهيئ البيئة الداخلية المناسبة لرد ملموس على الوقاحة الأمريكية والغربية والرجعية العربية واستطالاتهم من قوى الإرهاب والتكفير.
ما بعد .. جنيف:
ما ينبغي فهمه أن جنيف عملية مستمرة، وسباق ماراتوني ..وأن ما سيتحكم بنتائجه ليست الكلمات التي ألقيت في جلسته الافتتاحية والتي تجعلنا نستنتج أنه ولد ميتاً..
نقطة الانطلاق الصحيحة في تقييم أية عملية جارية في عالم اليوم هو التوازن الدولي الجديد، فهذا التوازن هو المتحكم الأساسي بالعمليات الجارية، وهو الذي يحدد الاتجاه العام للأحداث، وهو الذي فرض عقد مؤتمر جنيف، وتبقى مهمة القوى الوطنية السورية أن تتكامل في توجهاتها مع هذا المنحى والعمل على إعادة اللاعب الأساسي إلى الحلبة، أي الشعب السوري ليقول كلمته في قضاياه الأساسية قضية الحفاظ على وحدة وسيادة بلده، قضية حقه في اختيار النظام السياسي الذي يناسبه...