الإرادة الشعبية.. واستعادة الدور الوظيفي
نستطيع اليوم أكثر من أي وقت مضى البرهان على أن نضالات الشيوعيين السوريين على طول العقود الماضية قد أثمرت رؤى صحيحة فيما يتعلق بتراجع الحركة الشيوعية والثورية في العالم وفي بلادنا، وما نتج عنها من انقسامات متوالية، في النصف الثاني من القرن العشرين.
فقد صيغت هذه الموضوعة في المؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السوري «18/12/2003» بالقول إن ابتعاد الحزب الشيوعي عن ممارسة الدور الوظيفي تدريجياً هو السبب الأساسي وراء هذا التراجع، وإن حلها يكمن في استعادة هذا الدور تزامناً مع نضوج الظرف الموضوعي للقيام بهذه المهمة، مع بداية انسداد الأفق أمام الامبريالية العالمية نتيجة الأزمة الرأسمالية العالمية، التي برزت بوادرها منذ حوالي عقد من الزمن، وانفتاحه أمام قطب الشعوب في المقابل. وتلك العملية إن كانت طويلة وشاقة، بوصفها عملية تاريخية، فهي شرف لكل الشيوعيين السوريين الراغبين في استعادة موقعهم كممثل للجماهير الشعبية الواسعة من طبقة عاملة وفلاحين فقراء.
إن تجربة الحركة الشيوعية والتراكم المعرفي الذي رافقها أثمر حزب الإرادة الشعبية الذي حظي و مازال باعتراف متزايد لدى قطاعات واسعة من الجماهير الطامحة إلى التغيير والتي كان الوصول إليها سابقاً ليس بالأمر السهل.
استعادة الدور الوظيفي سياسياً
ترتكز مهمة استعادة الدور الوظيفي من الناحية السياسية على معالجة موضوعة البرنامج السياسي من ناحية الصياغة والتكيف الدائم مع مستجدات الواقع المتحرك في سبيل تغييره، فالتغيير الحقيقي لا ينتج إلا من التفسير الحقيقي، أي من التدقيق الدائم للبرنامج وإيجاد الصيغ المتجددة التي تلائمه وتتكيف مع متطلباته، ما يضع على عاتق الحزب و على الدوام مسؤولية تمكين أدواته المعرفية وتطويرها انطلاقا من حقيقة أن «الذي يمتلك السلطة المعرفية هو الذي ينتصر في نهاية المطاف»، وذلك وفق الأسس الماركسية- اللينينية كمرجعية وأساس فكري لهذه العملية.
وتحضر في هذا الإطار أمثلة ليست بالقليلة عن عملية التكيّف اللازمة والتي بدأت تتصاعد بعد الاجتماع الوطني التاسع للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، وبوتيرة أعلى بعد إعلان تأسيس حزب الإرادة الشعبية، ومنها الفكرة التي ظهرت في أدبيات الحزب في السبعينيات: «لو انطلقنا من الوضع الداخلي لكنا حتماً في المعارضة» تلك المقولة كانت صحيحة في ظروف تاريخية محددة وملموسة، اتسمت بوجود معسكرين متحاربين «سوفييتي- أمريكي» وكان من الضرورة بمكان حينذاك وضع أولوية الحفاظ على سورية في المعسكر المعادي للإمبريالية الأمريكية، وإلى جانبها المهام الداخلية الاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية كمهام جزئية تخضع للمهمة الأكبر، وكان المقصود أن النضال إلى جانب الاتحاد السوفييتي ضد الإمبريالية الأمريكية سيدفع الأمور بالتدريج نحو التغيير المطلوب داخلياً، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة الرأسمالية كنظام أوحد مهيمن على العالم أصبح الاستنتاج السابق يتطلب إعادة تكييف البرنامج السياسي مع الإحداثيات الجديدة، والتي أكد فيها الحزب انطلاقاً من المؤتمر التاسع «الاستثنائي للحزب» على«ضرورة دفع المهام الاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية إلى جانب المهام الوطنية العامة باعتبارها قضايا أساسية مترابطة».
تجدر الإشارة إلى أن استعادة الدور الوظيفي سياسياً كانت في مراحل سابقة تعاني من عائق أساسي آخر يتمثل في الهوة بين القول والفعل، وهو ما يضع على عاتق الحزب مسؤولية إيجاد الأشكال الملموسة اليومية والواقعية في تنفيذ هذه السياسة ما يدعونا لإعادة النظر مجدداً في استعادة الدور الوظيفي تنظيمياً.
استعادة الدور الوظيفي تنظيمياً
لا ينفصل التكيّف السياسي لخط الحزب عن التنظيمي له، وبعبارة أدق فإن الرؤية السياسية والعمل التنظيمي متلاصقان تماماً فلا يمكن رؤية الواقع وتفسيره بشكل صحيح إلا عن طريق عمل تنظيمي واسع بين الجماهير لفهم درجة وعيها ومتطلباتها المتحركة مع الواقع وبالتالي التدقيق الدائم للرؤية السياسية التي تنعكس بدورها على آليات العمل التنظيمي.
من هنا أصبح بالإمكان تشخيص مشكلة عدم وضوح الرؤية السياسية للحزب رغم الجهود الحثيثة التي بذلها الشيوعيون سابقاً في ميادين العمل التنظيمي، فقلة اللياقة في العمل التنظيمي، والاكتفاء بإعلان المواقف السياسية المجردة دون ربطها الملموس مع حركة الجماهير وضعت أمامنا مهمة استعادة هذه اللياقة التي تميزت بها كوادر الحزب في مراحل ليست بالقصيرة أواسط القرن الماضي وتجربة بعض الأحزاب الشيوعية التي تقدمت لتلاقي مصالح الجماهير تؤكد قدرة الحزب على القيام بهذه الخطوة ولعل الحزب الشيوعي الهندي الماركسي- اللينيني هو أحد هذه الأمثلة الحية اليوم.
ويبرهن الحزب اليوم على جديته في استعادة الدور الوظيفي تنظيمياً من خلال إزالة العوائق التي عرقلت فيما مضى التقدم على هذا الصعيد كإلغاء تدخل الهيئات العليا في ترشيحات الهيئات الأدنى و إلغاء منصب الأمين العام واستبداله بمجلس أمانة منتخب إضافة إلى إعادة النظر في عمر القياديين في الهيئات العليا إيذانا بدفع الشباب إلى تولي المسؤوليات فيها.
إن الجماهير الشعبية لم تعد تثق كثيرا بالكلام بل تثق بالممارسة والسلوك، وإذا كنا نشق الطريق نحو ممارسة تخرجنا من الأزمات المتراكمة سابقا، فإن إعادة الاعتبار لمنظومة الأخلاق الشيوعية ترتدي أهمية ليست أقل من الممارسة في نجاح عودة الحزب إلى الجماهير، في ظل اشتداد المعركة الإعلامية بما تحمله من شعارات ورموز وإشارات عملت على تشويه منظومة القيم الشيوعية منذ أواخر القرن الماضي ومازالت مستمرة حتى اليوم.
هذه المنظومة المتكاملة التي أسلفناها من رؤى سياسية وعودة إلى الجماهير أضحت اليوم وبشكل واضح قيد العمل واستكمال إنجازات الحركة الشيوعية في البلاد سبيلاً لإنجاز الهدف الأساسي في تمثيل الطليعة الثورية للطبقات الشعبية الكادحة، والسير باتجاه تحقيق تطلعاتها في التغيير والتحرير لتبقى كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.