سورية.. وخرافة التقسيم!
هل وصلت «اللعبة» إلى نهاياتها وبات تقسيم سورية أمراً محسوماً، وربما وشيكاً؟ ومن هو الذي يسعى إلى التقسيم، وما هي أدواته؟
لم يتوقف الحديث خلال سنوات الأزمة، عن احتمال تقسيم سورية، وشارك في هذا «الهرج» قوّالو أطراف الصراع كلهم... وتعالى الصياح «الوطني» و«الثوري» من هنا وهناك، كل طرف يتهم الطرف الآخر بأنه يسعى إلى التقسيم، ليس لاتهام الطرف الآخر فقط، بل لتقديم نفسه على أنه حامي حمى البلاد...!
لا شك أن المشروع موضوع على جدول أعمال قوى دولية عديدة، ضمن سياق الفوضى الخلاقة، وهو مشروع معلن، وبالتالي فإن الباب مفتوح لترويجه، وتسويقه... ولذلك فإن الحديث عنه يجد صدى في الوعي الجمعي... ولكن السؤال، ما هو حظه في النجاح؟
أولاً: التجربة التاريخية في تقسيم الدول والكيانات، تقول: إن التقسيم يحدث عندما يتوافق مع مصلحة القوى الدولية الصاعدة، التي تمتلك القوى والأدوات القادرة على فرضه... الحرب العالمية الأولى نموذجاً، حيث اقتسمت القوتان المنتصرتان - فرنسا وبريطانيا – العالم، وصاية وانتداباً، وأخذ التقسيم منحى مركباً؛ تقاسم بين الدولتين، وتقسيم كل دولة على حدة. وإذا اخذنا بعين الاعتبار بأن القوى الدولية الصاعدة الآن – روسيا الصين – هي دول ليس من مصلحتها تفتيت الكيانات والدول، والتي أثبتت ذلك بسلوكها العملي خلال الأزمة السورية، وفي جميع الملفات الدولية، فإن الشرط الأول للتقسيم غير متوفر في الحالة السورية.
ثانياً: يحدث التقسيم، عندما تتوفر مبرراته في البلد المستهدف بالتقسيم، وتحديداً عندما يصبح العيش المشترك غير ممكن، فماذا عن هذا الشرط في الحالة السورية؟
كان الوعي الجمعي السوري تاريخياً، وعياً وطنياً وجد تجسيده الملموس في معارك الاستقلال، ومواجهة الأحلاف الاستعمارية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، واستطاع الحراك الشعبي الذي جرى بأشكاله المتعددة فرز قيادات وطنية جامعة. أما مَن تجاوب مع مشاريع التقسيم وإنشاء الدويلات فمصيره معروف تماماً في التاريخ السوري، وإن كان البعض الآن يحاول نفخ الروح في تلك الجثث الميتة التي كانت على مزبلة التاريخ على مدى عقود، قبل أن يتشوه الوعي الوطني، وقبل أن يصبح الفساد مشروعاً تحت راية «الوطنية»، والعمالة مبررة تحت راية «الثورة». وعدا عن ذلك، فإن التداخل السكاني في سورية لا يجعل من التقسيم أمراً غير واقعي فقط، بل يجعلنا نجزم بأنه مجرد خرافة، وأحلام يقظة ربما تراود أصحاب تجارب «الهندسة الاجتماعية» في دوائر صنع القرار الأمريكي، وبعض فضلات الأزمة من السوريين، وجل ما يستطيع هؤلاء فعله، هو الإبقاء على التوتر، أملاً في إيصال الناس إلى الكفر بكل شيء، والبحث عن خلاص بأي ثمن كان، ولو كان وهماً.
ومن الجدير بالذكر هنا، أنه ليس بين يدي دعاة التقسيم، ومروجيه، سوى خرائط تلك الدويلات التي رسمها المسيو بيكو، وحملها معه غورو قبل قرن من الزمن، ودفنت مع أول خطوة له في الأرض السورية، وأصبحت مجرد محفوظات في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية. وإذا كان المشروع قد فشل وبات في مزبلة التاريخ قبل قرن من الزمن، بفعل الوعي الوطني الذي شاع في بلدان الشرق بعد نجاح الثورة البلشفية، فماذا سيكون مصيره الآن؟
لا شك أن شكل ومحتوى التطور الاقتصادي الاجتماعي – والسياسي، خلال العقدين الأخيرين، وتحديداً بعد تبني اللبرلة الاقتصادية، أنعش كل عوامل تقويض الوحدة الوطنية بشكلها السابق، وجاءت سنوات الأزمة، لتضيف إلى ذلك الخراب خراباً، وتوسع هوامشه، وبات الحديث عن الطوائف والقوميات هو السائد، لدى طيف واسع من النخب السياسية والثقافية، وحتى لدى قطاعات شعبية. ولكن بالمقابل وما يتجاهله الإعلام، أن تمازجاً جديداً وواسعاً حدث بحكم الأمر الواقع، على خلفية عمليات النزوح والتهجير التي جرت في البلاد، تمازجاً عابراً لكل اللغو الإعلامي الذي يُفرض على الناس، تمازجاً لم يسجل خلاله أي صراع جدي على أسس طائفية أو عرقية، بل على العكس من ذلك، أكدت عملية النزوح الداخلي بين المحافظات السورية، عمق الوعي الشعبي العابر للبنى التقليدية، الأمر الذي تجلى في سيادة النزعة الإنسانية في التعاطي مع النازحين، وهي ما تعبر عن حقيقة الوعي الوطني السوري، وتعكسه بالملموس، لا مواقف وسلوك أمراء الحرب من هنا وهناك.
نختصر ونقول، رغم كل عمليات التصدع التي جرت على أسس طائفية أو قومية، بقي النسيج الثقافي الوطني موحداً، وإنْ لم يُسمح له بالتعبير عن نفسه حتى الآن.
اطمئنوا... سورية لن تنقسم، بشرط ألا تكون نخوتكم الوطنية طارئة، وتحضر فقط كلما جرى تقدم على مسار الحل السياسي. اطمئنوا، ولكن عليكم أن تعرفوا أن الطريق الوحيد للحفاظ على سورية موحدة، هو طريق الحل السياسي. ولمن أسأنا الظن به من أصحاب هذه النخوة، نقول:
عذراً إخوتنا في الوطن، نقدر لكم مشاعركم الوطنية، ولكن اعلموا أن حساباتكم هي حسابات زمن آخر، حسابات زمن الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي، وليس الذي نعيشه الآن، حسابات الزمن الذي ولى إلى غير رجعة... حسابات من لا يعرف تاريخ سورية، الذي سيعبر عن نفسه مع أول خطوة عملية على طريق الحل السياسي، القادم بلا شك... بلاااا شك!