فقهاء الحرب والاتفاق الروسي الأمريكي
وأخيراً تم توقيع الاتفاق الروسي الأمريكي، رغم كل التشكيك الإعلامي، الذي سبق التوقيع عليه، وتخلل الاجتماع بين لافروف وكيري، ولم ينته حتى الآن
ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها السوريون، وخصوصاً أنصار الحل السياسي، إلى هذا التشويش، وهذا الإرهاب الإعلامي، فقبيل كل لقاء دولي على طريق التسوية السياسية يستنفر إعلام الحرب كله بشقيه، الموالي والمعارض، ليعلن «التعبئة العامة»..!
هكذا فعلوا وراهنو على عدم عقد جنيف بجولته الثانية في 2014، وعندما انعقد بشروا بفشله، وباتوا يروجون لخيارات أخرى على أساس أن جنيف انتهى. وعندما انعقدت جولته الثالثة 2016، استنفر وكر دبابير «حزب الحرب»، بجناحيه: «جناح الحسم» و«جناح الإسقاط» وراح يروج لنقاط الخلاف فقط، ويصر على تسويق شعارات الحد الأقصى، التي تستدرج الطرف الآخر، إلى المزيد من «التناحة»، رغم التقدم النسبي الذي كان قد حصل في حينه..و كل ما استطاعوا فعله هو خلط الأوراق، وتأخير الحل، الذي بات خياراً وطنياً سورياً، واقليمياً، ودولياً، محمولاً على إرادة القوى الدولية الصاعدة.
واليوم مع توقيع الاتفاق الأمريكي الروسي، ما زالت «أبواق الحرب» من الجزيرة، الى العربية، إلى الميادين، الى صحيفة الأخبار.. تملأ الفضاء الإعلامي زعيقاً وضجيجاً حول الاتفاق، وتشكيكاً بإمكانية تطبيقه، أو تجاهلاً له في أحسن الأحوال، رغم أن الأطراف المعنية كلها رحبت بالاتفاق رسمياً، من خلال مرجعياتها السياسية، ورغم أن الجميع بات يقر بأن الخيار السياسي هو الحل الوحيد.
إن المعنى الوحيد، لهذا الهراء الإعلامي، من هنا وهناك، وخلفياته، هو استمرار طاحونة الدم السورية بالدوران، وهو استهتار هؤلاء بتدمير سورية، ولا ينفعن أحداً التلطي خلف «سيادة وطنية» مجتزأة، أو البكاء على «الثورة» المغدورة من حلفائها.
تتعدد أسباب هذا الموقف المتشابه لدرجة التماثل أحياناً، من طرفي الصراع، فالجماعات المسلحة «المعتدلة» ستخسر احتياطياً عسكرياً متمثلاً بالقوى المحسوبة على الإرهاب حسب معايير موسكو المفروضة على واشنطن، والقوى الإقليمية ما عادت قادرة على تمويه تموضع مرتزقتها بين «معتدل» و«إرهابي». أما النظام، وتحديداً متشددوه، باتوا يدركون جيداً أن الاتفاق هو خطوة نحو استئناف مفاوضات جنيف، بما يعنيه ذلك من تحولات جذرية ليست في مصلحتهم.
أي أن هوامش المناورة واللعب على الحبال، ضاقت أكثر فأكثر لدى متشددي الأطراف، وحتى لدى واشنطن نفسها التي طالما استثمرت في الخارطة المعقدة للجماعات المسلحة، للتسويف والمماطلة في استئناف مفاوضات جنيف.
باختصار، إن الاتفاق الذي انتزع انتزاعاً من بين أنياب قوى الحرب في الإدارة الأمريكية، ومن خلال عناوينه المعلنة وتحديداً ذاك المتعلق بتعزيز وقف الأعمال العدائية، وبغض النظر عن شكل ودرجة الالتزام به من الأطراف المختلفة، يعتبر فرصة جدية ونوعية وحقيقية لإطلاق الحل السياسي. وبالتالي فإن الموقف منه، هو معيار الموقف من الحل السياسي، ورفضه هو رفض للحل السياسي، والتشكيك به هو تشكيك بالحل السياسي، ومحاولات الالتفاف عليه هو التفاف على الحل السياسي، وتجاهله هو تجاهل لأهمية الحل السياسي، وذلك في مقابل توقع منطقي ينسجم مع مسار الأمور مفاده: أن من أصر على الاتفاق، واستطاع أن يخرجه إلى النور قادر على حمايته أيضاً، مهما تلاعبت واشنطن، ومهما تعالى صراخ إعلام الدم، ومهما امتلك أعداء الحل السياسي من بقايا أوراق متهالكة، تتساقط يوماً بعد يوم في سياق التقدم الروسي بخياراته المعروفة.