الذهب بين حصد الأرباح والتغييرات الكبرى في النظام المالي العالمي
أصبح الذهب أول أصل في التاريخ تتجاوز قيمته السوقية حاجز 30 تريليون دولار، بعد أن صعد بنسبة 60% حتى الآن في عام 2025، في أفضل أداء له منذ عام 1979. لقد أصبحت مراقبة حركة الذهب وسعر الأونصة هاجساً لدى الكثيرين، تعبيراً عما يمثله الذهب في تحركاته من مؤشرات حول الاقتصاد العالمي، وقيمة العملات الورقية، ومستوى الثقة بالمنظومة المالية العالمية. ونظراً لارتباطه التاريخي بالأزمات، فإن الذهب عادةً ما يتحرك بهذه الطريقة بشكل متزامن مع الأزمات والأحداث الكبرى: من اتفاقية بريتون وودز وربط الدولار بالذهب، إلى صدمة نيكسون وفك الارتباط، مروراً بأزمات القرن الحالي بدءاً من فقاعة «دوت كوم»، ثم الأزمة المالية العالمية، والتيسير الكمي الذي سبق جائحة كورونا، وصولاً إلى اليوم الذي يبدو وكأنه تكثيفٌ يحمل معه العديد من خصائص الأزمات السابقة.
تتزايد التحليلات حول صعود وهبوط الذهب من منظوره كأحد الأصول المالية في البورصة، ونسمع مصطلحات مثل «تصحيح أول» أو «تصحيح ثاني» أو «جني الأرباح»، التي تعبّر بشكلٍ سطحي ومؤقَّت عن حركة الذهب، والتي تحوي بالتأكيد عنصراً مضاربيّاً ومحاولات لجني الأرباح. لكن هذا النوع من التحليل يُخفي الجوهر الحقيقي لارتفاع سعر الذهب مقابل العملات الورقية — أو بشكل أدق، انخفاض قيمة هذه العملات مقارنةً بالذهب.
فالكثير من المحللين يشيرون إلى أن الذهب لم يتغيّر من حيث القيمة الحقيقية، بل إن ما تغيّر هو قيمة العملات الورقية والأصول المالية الأخرى، لأسباب عدة، أبرزها: تراجع الثقة بالاقتصاد الأمريكي والدولار كعملة عالمية، والمخاوف من التحوّلات الجيوسياسية، واحتمالية نشوب صدمات بين القوى العظمى. كما لعبت سياسة ترامب في فرض رسوم جمركية على جميع الدول دوراً في تسريع عمليات شراء الذهب حول العالم، بالإضافة إلى أن العديد من البنوك المركزية ضاعفت مشترياتها من الذهب.
البنوك العالمية
تقوم البنوك المركزية العالمية الآن بشراء الذهب بشكل مستمر، بعد عقود من اعتماد سياسة بيعه مقابل تنويع الاحتياطيات النقدية. هذه العملية، التي بدأت منذ ثلاث سنوات، أدت - وفقاً لبيانات مجلس الذهب العالمي - إلى ارتفاع حصة الذهب في احتياطيات البنوك المركزية العالمية من 10% قبل عقد إلى نحو 24% بحلول منتصف عام 2025، أي ما يعادل 3.93 تريليون دولار من القيمة السوقية.
وقد تجاوزت هذه القيمة لأول مرة قيمة السندات الأمريكية المحتفظ بها خارج الولايات المتحدة. وتهدف هذه الخطوة أساساً إلى تقليل الاعتماد على الدولار، في محاولة للعودة إلى عالم ما قبل هيمنة الدولار.
نسبة الذهب إلى الفضة
حتى آب/أغسطس 2025، ارتفعت نسبة الذهب إلى الفضة إلى نحو 1:88، أي إنّ أونصة واحدة من الذهب تساوي 88 أونصة من الفضة — وهو أوسع فارق في التاريخ الحديث.
هذا الرقم ليس مجرد مؤشر تقني، بل إشارة إلى اختلال عميق بين الأصول النقدية. فبينما تُعد الفضة معدناً نقدياً وصناعياً — نظراً لاستخدامها في العديد من الصناعات — فإن الذهب يُعتبر في المقام الأول معدناً نقدياً مرتبطاً بالادخار والاكتناز.
وبالتالي، فإن هذه النسبة - التي تعد الأعلى في التاريخ الحديث - تدل على ترجيح الناس والمؤسسات للادخار والتحفّظ على الثروات، بدلاً من الميل نحو الطلب الصناعي أو الاستثماري المنتج.
الذهب معيار موضوعي للقيمة
في ظل النظام الرأسمالي، حيث تُنتَج السلع للتبادل لا للاستعمال المباشر، تبرز الحاجة إلى وسيلة عامة لقياس القيمة. والذهب، بصفته سلعة ذات خصائص مادية فريدة (الندرة، المتانة، القابلية للتقسيم، والثبات الكيميائي)، استقرّ عليه تاريخياً ليكون تلك الوسيلة.
لكن مع تحوّل النقود إلى مجرد رموز ورقية أو إلكترونية غير مغطاة بالذهب، انفصل شكل القيمة عن مادتها، وغدا التضخم والانهيار النقدي احتمالاً دائماً. ومن هنا، يعود الذهب - في لحظات الأزمات - ليؤكّد طبيعته كمعيار موضوعي لا يتأثر بتقلّبات السياسة النقدية أو قرارات البنوك المركزية. فارتفاع سعره ليس انعكاساً لـ«الطلب المضاربي» فحسب، بل تعبيرٌ عن انهيار القيمة المُعلَنة للنقود الورقية مقارنةً بقيمة العمل المُجسَّدة في الذهب. ولذلك، فإن صعود الذهب اليوم لا يُقرأ فقط كمؤشر مالي، بل كزلزال هادئ يكشف عن تآكل أسس الثقة في النظام النقدي الرأسمالي نفسه.
خاتمة
لا شكَّ أن الصعود الأخير للذهب، ووصوله إلى مستويات قياسية تجاوزت 4300 دولار للأونصة، قد أثار موجةً واسعة من التحليلات والنقاشات، وجذب انتباه المزيد من المتابعين. صحيح أن كثيرين يرون في تقلّبات الذهب فرصةً لتحقيق أرباح قصيرة الأجل، لكن الجوهر الأعمق يكمن في رغبة الناس - أفراداً ودولاً - في الحفاظ على مدخراتهم وثرواتهم في زمنٍ تتآكل فيه قيمة النقود الورقية.
فالذهب لا يخلق ثروة جديدة، بل يحميها من الاندثار حين تفشل المنظومة الاقتصادية العالمية الحالية في توليد نموٍّ حقيقي يلبّي احتياجات الشعوب ويدفع بعجلة التقدّم إلى الأمام. بل إن هذه المنظومة، في هيمنتها الراهنة، باتت يُنظر إليها كعائقٍ أمام إعادة التوازن الاقتصادي والسياسي العالمي.
ومن هنا، يكتسب تحوّل البنوك المركزية ولا سيّما في دول البريكس والدول الساعية اللى تبنّي سياسة أكثر استقلالية نحو شراء الذهب بأحجام غير مسبوقة، طابعاً استراتيجياً عميقاً: إنه ليس مجرد تحصين للاحتياطيات، بل خطوة ضمن مسار أوسع لإعادة بناء النظام المالي العالمي، بعيداً عن الارتهان للدولار، لا يتأثر بتقلّبات السياسة أو المضاربات المالية.
معتز منصور