إفتتاحية قاسيون 728: الحل المطلوب.. وإعادة التموضع
تقدمت الأزمة السورية خلال الأسابيع القليلة الماضية لتحتل مركز الاهتمام الأول على المستوى الدولي. انعكس ذلك بكثافة التصريحات واللقاءات الدبلوماسية، وكذلك بالتغطية الإعلامية الواسعة، التي وإن اتخذت في موجتها الأولى شكل الهجوم على العمليات العسكرية الروسية في سورية، إلا أنها بدأت بالانزياح شيئاً فشيئاً لتركز على مناقشة الأزمة السورية نفسها وكيفية الخروج منها.
كنا قد أوضحنا منذ أكثر من عام أنّ واشنطن، إذ تعيش مرحلة تراجع متسارع، فإنّ من مصلحتها الموافقة الفعلية على حل سياسي في سورية بأسرع ما يمكن، لأنّ كلّ تأخير إضافي سيعني لواشنطن مزيداً من الخسائر على المستوى الكوني، ولاسيما في الإقليم.
وإنّ وقائع اليوم، إذ تثبت صحة هذا الرأي، بدليل حل الملف النووي الإيراني، فإنها تثبت أيضاً أنّ ما أخّر واشنطن عن الدخول في عملية الحل السياسي السوري، هو ذلك الصراع المستمر بين الجناحين الفاشي والعقلاني ضمن فئات الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة.
وما يمكن إضافته اليوم، هو أنّ ثبات سياسات القوى الصاعدة دولياً وجديتها في مواجهة الاستفراد الأمريكي السابق، وسعيها الحثيث لإطفاء حرائقه المتنقلة، هنا وهناك، أسهمت إلى حد كبير في ترجيح محصلة الصراع بين الاتجاهين الداخليين الأمريكيين لمصلحة «التيار العقلاني»، ولكن بما لا ينفي بطبيعة الحال استمرار محاولات هذا التيار ذاته الاستفادة من نظيره الفاشي وأدواته. وهذه المحاولات ستتحول مع العمليات الروسية إلى مصدر خسائر إضافية لواشنطن، سيتحدد حجمها بطبيعة التعامل الأمريكي اللاحق مع موضوعة الإرهاب، فإن استمرت واشنطن في سياستها الداعمة أو المتعامية- في أحسن الأحوال- عن «داعش» ومثيلاتها، فإنّ الخسائر ستكون في حدودها القصوى.
إنّ المتابع لخطابي بوتين وأوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يلحظ أنّ حدة الهجوم المتبادل كانت مضبوطة من الطرفين بحدود عالية، وهو ما يشير إلى وجود توافقات عامة حول القضايا الأساسية الكبرى، وهذا لا يعني الاتفاق على التفاصيل، وإنما يعني أنّ الصراع عليها سيجري ضمن الأطر العريضة للتوافقات المنجزة.
في السياق يمكن تثبيت معانٍ ونتائج إضافية للعمليات الروسية في سورية هي التالية:
إنّ افتضاح الدور الأمريكي الداعم للإرهاب، أو غير الجدي في محاربته على الأقل، يتسع ويتعمم في الأماكن والدول المختلفة، ويظهر الآن في العراق بشكل متعاظم مع مسألة الأنبار وغيرها.
إنّ عملية الانكشاف والحرج الأمريكي هذه، تعزز فكرة أنّ دخول روسيا على خط الفعل العسكري في سورية ليس دخولاً إلى سورية فحسب، وإنما إلى المنطقة كلّها.
وهو ما يعزز أيضاً صورة الروس وحلفائهم دولياً كمحارب جدّي للفاشية الجديدة بتجليها الإرهابي على المستوى العالمي.
إنّ الوقائع السياسية والميدانية تشير إلى تعمق اتجاه موضوعي نحو تحجيم وتحديد دور القوى الإقليمية، السياسي وحتى العسكري، في التدخل في الشأن السوري، وعلى رأسها تركيا والسعودية، بما يضاف إلى التحولات في المواقف الفرنسية والبريطانية تجاه الأزمة وحلها سياسياً. هذا الاتجاه يفرضه توازن القوى الدولي الجديد بالتوازي والتكامل مع حدود التوافقات الروسية- الأمريكية العريضة.
مما لا شك فيه، أن واشنطن ورغم أنّها تنظم انسحابها من سورية والمنطقة ضمن عملية ضبط تموضع القوى، وفق ميزان القوى الجديد، إلّا أنّها لم تفقد أدواتها التخريبية جميعها، وبين أهم تلك الأدوات العمل على تنشيط فوالق طائفية وقومية، تسعى جهدها لاكتساب أطراف فيها على أمل توظيفها في أشكال الحل السياسي القادم ومخرجاته، ورغم أنّها لم تحقق شيئاً جدّياً حتى الآن في هذا الاتجاه، ولا يبدو وفقاً للظروف المختلفة أنها ستستطيع ذلك بسهولة، لكن هذا الأمر وإلى جانبه الطبيعة العميقة للأزمة الوطنية الشاملة، يفرضان اتجاهاً واحداً لما ينبغي أن يكون عليه الحل السياسي- الذي بتنا على مشارفه- ليكون حلاً حقيقياً. فالحل ينبغي أن يستند إلى بيان جنيف1 وأن يفضي إلى التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والعميق والشامل، سياسياً واقتصادياً- اجتماعياً وديمقراطياً، وإلّا فإنّ واشنطن لن تكون قد خرجت فعلياً من سورية، وبالتالي فإنّ الأزمات لن تتوقف عن التوالد، ولذلك يكون على القوى الوطنية السورية كلها، أينما كانت مواقعها واصطفافاتها، أن تعيد تموضع حساباتها ومواقفها للدفع باتجاه ذاك الحل التغييري المطلوب.