الانحطاط السيكولوجي المُلازم لوحشيّة الحروب الأهلية (1/2)

الانحطاط السيكولوجي المُلازم لوحشيّة الحروب الأهلية (1/2)

الحروب الأهلية من أكثر أشكال الصراع البشري وحشية وتعقيداً من الناحية النفسية، حيث كثيراً ما تَخرقُ حتى تلك القواعد الشائعة للاشتباك بين الدول، في عنف دموي بين أبناء الشعب الواحد، والجيران والأصدقاء وحتى أفراد الأسرة الواحدة أحياناً، ممّا يثير التساؤل حول الآليات النفسيّة التي تسمح للأفراد والجماعات بتبرير مثل هذه الأفعال المروِّعة ضدَّ بعضهم بعضاً؟ يتناول هذا المقال بعض العمليات النفسية-الاجتماعية التي تسمح للفصائل المتحاربة أهليّاً بالدَّوس على القيم الأخلاقية الإنسانية وانتهاك المحرَّمات وذلك الشق الإيجابي من التابوهات التي تطوَّرتْ تاريخياً للحفاظ على بقاء الجماعة البشرية وتميُّزها عن القطيع الحيواني. وسنركّز على آليّات مثل: تجريد الآخر من إنسانيّته، وتعميم الصور النمطية، والمعايير المزدوجة، والعدالة الانتقائيّة، والتذرّع بـ«حالة الطوارئ»، والتقييم غير المتكافئ للحياة البشرية.

تتحدث كثيرٌ من أبحاث عِلم الاجتماع وعِلم النفس والعلوم السياسية، عن كيف تجعل هذه الاستراتيجيات المعرفية والاجتماعية العنفَ الشديد ليس ممكناً فحسب، بل ومسوَّغاً «أخلاقياً» ومشجَّعاً عليه لدى الجناة المتورِّطين في الحرب الأهلية من كلّ أطرافها.

أسس الانفصال الأخلاقي في الصراع الأهلي

تخلق الحروب الأهلية بيئةً نفسية فريدة حيث يتمّ تفكيكُ وكسر الحواجز الأخلاقية التقليدية ضدَّ القتل والإجرام بشكل منهجي. يتطرّق بحثُ مايكل مان حول عدم عقلانية الحرب إلى الضغوط العاطفية والأيديولوجية والسياسية المحلّية التي تشوِّه صنعَ القرار العقلاني. تصبح هذه اللاعقلانية أكثر وضوحاً في الحروب الأهليّة، حيث تختفي الخطوط الفاصلة بين المقاتلين المسلَّحين والمدنيّين العزّل.

توفّر عملية الانفصال الأخلاقي إطاراً لفهم كيف يمكن للأشخاص العاديين ارتكابُ عنفٍ غير عادي دون الشعور بالذنب الشديد أو التنافر المعرفي. وتم تحديد عدة آليات يمكن من خلالها للأفراد والجماعات «تعطيل» بوصلتهم الأخلاقية، بما في ذلك: التبرير الأخلاقي، والتسمية الملطَّفة، والمقارنة التوظيفية، ونقل المسؤولية وتشتيتها، والتجاهل أو تشويه العواقب، وتجريد الخصم من إنسانيته، وإلقاء اللوم. في سياق الحرب الأهلية، تصبح هذه الآليات مؤسَّسية من خلال الدعاية والتدريب العسكري وديناميكيات المجموعة.

تزيد الحروب الأهلية من حدة هذه العمليات لأنها تمثّل ما يسميه علماء الاجتماع «حروب الهُويّة» – علماً بأن «الهُويّات» التي تتَّخذ شمّاعةً للعنف الأهلي الرّجعيّ يمكن أنْ تكون أيَّ معيار اختلافي باستثناء الهُويَّة الوطنية الجامعة وغالباً أيضاً باستثناء الهُويَّة الطبقية، وهذا بدهيّ بالطبع لأنّه لو تمّ التركيز على حقيقة الانتماء إلى هوية وطنية واحدة سيصب ذلك بعكس مصالح المستفيدين من إشعال الحرب الأهلية الرّجعية ويعرقل جهودهم في تسعيرها، وهو ما نجد مثاله النموذجي في حروب التحرّر الوطني من الاستعمار وضد الاحتلال التي تستند إلى الوحدة الوطنية وتعاكس حالة الحرب الأهلية. أمّا الاستناد إلى الهُويّة الطبقية في الصراع الاجتماعي بأشكاله السلمية والعسكرية فهو أمرٌ آخر يدفع مسار التطور الاجتماعي وحلّ التناقضات الطبقية باتجاه مختلف عن مسار «التدمير الذاتي» الذي نقصده هنا بمصطلح «الحرب الأهلية» بمعناها الرجعيّ المُعاصر. فنحن لا نتحدّث عن صراعٍ ثوريّ تقدّمي كذلك الذي حدث في ثورة أكتوبر 1917 أو في زمن كومونة باريس 1871، حيث سمّيت أيضاً «حروباً أهليّة» ولكّنها تختلف جذرياً عن المعنى المعاصر السائد اليوم لهذا المصطلح. ولذلك تجري تغذية الهُويّات الثانوية أو حتى اختراع هُويّات زائفة وتضخيمها وهندستها بشكل صدامي وتناحري مفتعَل مع الهُويّات الأخرى في المجتمع نفسه لسوقه باتجاه التدمير الذاتي وتحقيق نتائج رجعيّة.

في الصراع الأهلي الرجعيّ الذي نقصده يكون تعريف من ينتمي إلى «المجتمع» محلّ نزاع. يقوم بشكل متبادل كل طرف من أطراف العنف الأهلي بتجريد الأطراف الأخرى من إنسانيتها، مستخدماً في ذلك وسائل الإعلام والخطاب السياسي. هذا يؤدي إلى تهميش أو طمس معاناة البشر «غير المرئيين» وخاصة المدنيين من كل الأطراف، أو تصوير معاناتهم كأنها غير أهل للتعاطف.

التجريد من الإنسانية كمسوِّغ نفسي للفظائع

ربّما يُعدُّ تجريد «الخصم» أو «المختلَف معه» من إنسانيته الآليةَ النفسية الأكثر فعاليّة التي تمكّن العنف الجماعي في الحروب الأهلية. حيث ينظر المتورّطون بالحرب الأهلية كلٌّ منهم لأفراد الجماعة الأخرى على أنهم «أقلُّ من بشر» أو أشبه بالحيوانات؛ في الحقيقة يمكن أنْ نلاحظ مثالاً نموذجياً على نزع الأنسنة عبر الاستعمال المكثف لغويّاً لصفات الحيوانات وأسمائها نعوتاً لأفراد الطرف الآخر، وخاصةً التشبيه بحيوانات مرتبطة بالقذارة في الخيال الجمعي لنزع قدسيّة الحياة والكرامة الإنسانية عنهم، أو تشبيههم بالحيوانات التي يمكن ذبحها، أو الحشرات التي تسمح بتصوّر «ضعف» الآخر و«انعدام قيمته» وقابليته «للسحق/الدعس» وما إلى ذلك، وكسر الحاجز النفسي لدى ممارسي العنف الأهلي من الطرفين لارتكاب أعمالٍ إجرامية وإرهابيّة. حيث تخلق سيكولوجية تجريد «الخصم» من إنسانيّته ما يسمّيه بعض الباحثين «ثغرة عقلية» تسمح للأفراد بإيذاء الآخرين دون الشعور بالقيود الأخلاقية الطبيعية ممّا يجعل الجناة وجمهور مغسولي الأدمغة المتعاطفين مع الجناة (من كلّ أطراف الحرب الأهلية) متقبّلين للانتهاكات ضد الطبيعة البشرية والمبادئ الإنسانية. تبدأ هذه العملية دائماً باللّغة – مثل استخدام الاستعارات الحيوانية، أو حرمان الضحايا من الأسماء الشخصية (هذه الوسيلة معروفة أيضاً في انتهاك حقوق الإنسان من الأنظمة القمعية عندما تفرض على المعتقلين أرقاماً كألقابٍ لهم وتمنعهم من استعمال أسمائهم الحقيقية)، أو استخدام التعبيرات الملطِّفة للعنف أو التي قد تغيّر التوصيف القانوني للتخفيف من فداحة الجريمة؛ مثلاً كلمة «تجاوز»، وكأنها «تجاوز لإشارة مرور» مثلاً، تختلف كثيراً في دلالتها المعنوية والقانونية عن كلمة «قتل» أو «اعتداء»...إلخ. وبالمثل أيضاً تجري ممارسة تمييز لغوي ينطوي على تمييز أخلاقي أعمق في كيفية تقييم الأرواح والكرامة، وخاصة عندما ترتبط مفردات لغوية معينة بشحنات تأويلية وأحكام قيميّة أخلاقية أو سياسية أو روحية ودينية معينة مثل: «شهيد»، و«قتيل»، و«ضحية»...إلخ.

تمتد عواقب تجريد الخصم من إنسانيته إلى ما هو أبعد من تمكين العنف – فهو يخلق دورات انتقامية ذاتيّة التعزيز، إضافة إلى أنه عندما يشعر مواطنون بأنهم مجرَّدون من إنسانيّتهم، يصبحون ليس فقط أكثر عرضة لاستفزازهم من أجلّ ردّ مقابل يمارسون فيه تجريد الطرف الآخر من إنسانيته أيضاً، بل يصبحون أقل قابلية للالتزام بالقوانين أو الاستجابة لدعوات السلم الأهلي. يفسِّر هذا التجريد المتبادل من الإنسانية سببَ كون الحروب الأهلية غالباً ما تصبح أكثر وحشية كلما تأخر إيقافها، حيث ينظر كلُّ طرف إلى الطرف الآخر على أنه «شرير» أو «دون بشري» في طبيعته.

الصور النمطية وبناء صورة «العدوّ»

من الأمور التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتجريد إنسانيةِ المختَلَف معه أهليّاً، الاعتمادُ على الصور النمطية لتبرير العنف الأهلي المتبادل بين الجماعات. تخدم الصور النمطية وظائفَ نفسية مهمّة في الحروب الأهلية من خلال تبسيط الحقائق السياسية والاجتماعية المعقَّدة إلى سرديّاتٍ سهلة الهَضم وثنائيّات وهمية (مثل: خير مطلق/شر مطلق، أو مؤمن/كافر في الحرب الطائفية أو الدينية). إنها تسمح للمقاتلين بتصنيف مجموعات سكانية بأكملها بناءً على أفعال أو أقوال قلّة وتبرير «العقاب الجماعي» – وهي سمة شائعة للصراعات الأهلية.

أدلة من علم الدماغ والأعصاب

يكشف بحث سوزان فيسك في علم الأعصاب في جامعة برينستون الأمريكية أنه عندما نجرّد الآخرين من إنسانيتهم، تنشط مناطق دماغنا المرتبطة بالاشمئزاز بينما تتثبّط مناطق الارتباط بالتعاطف. تساعد هذه الاستجابة البيولوجية في تفسير كيف يمكن للصور النمطية أن تتغلب على نفورنا الطبيعي من إيذاء الآخرين. في سياقات الحرب الأهلية، تصبح الصور النمطية طويلة الأمد حول المجموعات العرقية/القومية أو الدينية/الطائفية أو المناطقية محفزات لهذه الاستجابات العصبية بشكل منهجي.

وغالباً ما تُستَمدّ الصور النمطية في الحروب الأهلية من المظالم التاريخية والتفسيرات الانتقائية للماضي، ويمكن لها أن تنبش في جعبة التراث الشعبي أو في التأويلات الدينية لإجراء إسقاطات على الحاضر من أجل تسويغ العنف الأهلي واختلاق تبريرٍ «مقدَّس» له.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1235