أدلة علمية وتاريخية على الدور الأساسي للقطاع العام في إعادة الإعمار
تناولت دراسات عديدة ونقاشات أكاديمية وسياسية دورَ القطاع العام والشركات المملوكة للدولة في إعادة الإعمار بعد الحروب، وبيّنت أنه حتّى «مشروع مارشال» لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية كان مضطراً إلى الاعتماد بالدرجة الأولى على القطاع العام ومشاريع عملاقة مملوكة للدولة، وبهذا يختلف كثيراً عن «برامج الإصلاح الهيكلي» الحديثة الممولة من صندوق النقد (النهب) الدّولي، الذي يشجع على عكس ذلك، أيْ على الخصخصة. ومن شأن الأدلة التي سنوردها أن تكون حججاً تنقضُ التعويل المفرط (لدرجة الأوهام)، الذي تنتهجه السلطة الجديدة في سوريا ما بعد الأسد اليوم، على استثمارات خاصّة منتَظرة في البنية التحتية والقطاعات الحيوية الضخمة، مثل الطاقة والنقل والصحّة والاتصالات وحتى البناء العمراني اللائق، وغيرها من خدمات وبنى، والتي يفترض أن تكون قابلة لتحمّل تكاليفها من شريحة الـ 90% الشعبية الأوسع والأفقر في سوريا المدمِّرة والمنهكة.
1– دور القطاع العام بالاستقرار وتطوير البنية التحتية
بعد الحرب، يكون القطاع العام غالباً في وضع أفضل لتوفير الخدمات الأساسية والبنية التحتية، وهي أمور حاسمة لتحقيق الاستقرار والتعافي الاقتصادي. وفيما يأتي بعض الأدلة.
أ- دراسة أجراها كولير وهوفلر (2004) بعنوان «الجشع والظلم في الحرب الأهلية»: أشارت إلى أنّ الاقتصادات ما بعد الصراع تفتقر غالباً إلى البنية التحتية الأساسية اللازمة لنمو القطاع الخاص. أما القطاع العام، فبقدرته على تعبئة الموارد وتنسيق المشاريع الكبيرة، ضروري لإعادة بناء الطرق والمدارس والمستشفيات والمرافق العامة.
ب- تقرير التنمية العالمية 2011 عن «الصراع والأمن والتنمية» والصادر بالمناسبة عن البنك الدولي نفسه! أكد أنّ المبادرات بقيادة الدولة ضرورية لاستعادة الخدمات الأساسية وخلق أساس لنشاط القطاع الخاص، وهذا اعتراف حتى من البنك الدولي بأنّ القطاع الخاص نفسه حتى يستطيع العمل جدّياً يحتاج البنية التحتية الضخمة التي لن يستطيع إعمارها سوى القطاع العام.
2– الشركات المملوكة للدولة والقطاعات الاستراتيجية
تلعب الشركات المملوكة للدولة دوراً حاسماً في إعادة بناء القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة والنقل والاتصالات، والتي غالباً ما تكون مكلفة للغاية أو محفوفة بالمخاطر بالنسبة للمستثمرين الخاصّين في مرحلة ما بعد الحرب. وهذه بعض الأدلة.
أ- في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الشركات المملوكة للدولة أداة أساسية في إعادة بناء الصناعات والبنية التحتية. مثلاً، لعبت الصناعات المؤمَّمة في فرنسا (مثل سيّارات رينو وشركة الكهرباء العامة الفرنسية EDF) دوراً محورياً في التعافي الاقتصادي.
ولنشدّد مرّة ثانية: «المؤمَّمة» وليس «المُخصخَصة» رغم أنها فرنسا رأسمالية وليست اشتراكية. فبعد الحرب العالمية الثانية، واجهت فرنسا دماراً هائلاً طال البنية التحتية والصناعات والمدن. وتم تنفيذ جهود إعادة الإعمار بشكل كبير من خلال القطاع العام والمؤسسات المملوكة للدولة، مما يعكس التزام الحكومة الفرنسية آنذاك بالتخطيط المركزي والتدخل الاقتصادي (رغم أنها رأسمالية). فكانت «خطة مونيه» 1946–1950 التي سُميت على اسم الاقتصادي جان مونيه، حجر الزاوية في هذا الجهد، وركزت على قطاعات رئيسية كالطاقة والنقل وإنتاج الصلب. وقامت الدولة بتأميم الصناعات الكبرى، بما في ذلك الفحم والكهرباء والغاز والسكك الحديدية، مما ضمن السيطرة على الموارد والبنية التحتية الحيوية. ولعبت المؤسسات المملوكة للدولة مثل شركة كهرباء فرنسا «إلكتريسيتي دي فرانس» (EDF) وشركة «رينو» أدواراً محورية في إعادة بناء الاقتصاد. فقامت EDF بتحديث وتوسيع شبكة الطاقة، بينما أعادت رينو تحت سيطرة الدولة إحياء صناعة السيارات. كان الاستثمار العام في البنية التحتية، كالطرق والجسور والإسكان ضخماً وتم تمويله من خلال الميزانيات الحكومية، أي ضمن القطاع العام رغم أن مصدر كثير من التمويل والمساعدات كان «مشروع مارشال». كما وجهت الدّولة العمالة والموارد، مما ضمن جهوداً منسقة عبر القطاعات. وسمح هذا النهج الذي تقوده الدولة لفرنسا بإعادة بناء اقتصادها بسرعة، حيث حققت نمواً كبيراً بحلول الخمسينيّات. وسيطرت الهيمنة العامة للقطاع العام على إعادة الإعمار بما يتوافق مع الأولويات الوطنية، مما وضع الأساس لما يوصف أحياناً بـ«معجزة فرنسا الاقتصادية بعد الحرب». ورغم وجود مساهمات من القطاع الخاص لكن الدور المركزي والقيادي كان للدولة والقطاع العام.
ب- ناقشت دراسة حالة أجراها موساكيو ولازاريني (2014) في كتاب «إعادة اختراع رأسمالية الدولة» كيف تم استخدام الشركات المملوكة للدولة في البلدان النامية لإعادة بناء الاقتصادات بعد الأزمات، بما في ذلك الحروب، من خلال التركيز على الأهداف طويلة الأجل بدلاً من الربحية قصيرة الأجل.
3– قيود القطاع الخاص في سياق ما بعد الحرب
غالباً ما يفشل القطاع الخاص في الاستثمار في إعادة الإعمار بعد الحرب بسبب المخاطر العالية وضعف المؤسسات وعدم وجود ربحية كافية. وإليكم بعض الأدلة.
أ- أشار تقرير صادر عن الأونكتاد (2018) حول اقتصادات ما بعد الصراع إلى أن استثمارات القطاع الخاص تقتصر عادةً على القطاعات منخفضة المخاطر وعالية العائد، مما يؤدي إلى إهمال القطاع الخاص للمجالات الأكثر حيوية لأنها أقل ربحية عادةً (مثل المرافق العامة والتعليم).
ب- أشارت أبحاث أجراها باين (2017) في مؤلَّف «التعافي الاقتصادي بعد الصراع: دور القطاع الخاص» إلى أنّ الشركات الخاصة غالباً ما تتردد في الاستثمار في بيئات ما بعد الحرب بسبب عدم الاستقرار السياسي وضعف الأطر القانونية ونقص البنية التحتية.
4– دور القطاع العام في خلق الوظائف والاستقرار الاجتماعي
الحجة الرئيسية: يمكن أن توفر الوظائف في القطاع العام والشركات المملوكة للدولة فرص عمل أكثر وتقلل من الاضطرابات الاجتماعية، وهو أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار أثناء إعادة الإعمار. وفيما يأتي بعض الأدلة.
أ- وجدت دراسة أجراها بينيت وآخرون (2010) بعنوان «العمالة في القطاع العام في بيئات ما بعد الصراع» أنّ الوظائف في القطاع العام غالباً ما تكون مصدراً رئيسياً للتوظيف في اقتصادات ما بعد الحرب، مما يساعد على تقليل البطالة ومنع العودة إلى الصراع.
ب- سلطت منظمة العمل الدولية (ILO) الضوء على دور برامج الأشغال العامة في البلدان التي خرجت من الصراع مثل رواندا وسيراليون في توفير فرص العمل وإعادة بناء المجتمعات.
5– أمثلة إضافية لحالات إعادة إعمار ناجحة بقيادة القطاع العام
أ- ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: (حتى ألمانيا الغربية الرأسمالية) كما في فرنسا فإنّ ألمانيا اعتمدت على جهود إعادة الإعمار التي تقودها الدولة والقطاع العام بالدرجة الأولى، لإعادة بناء البنية التحتية والصناعات. وعلى الرغم من مشاركة القطاع الخاص ولكن لم يكن لهذا الأخير سوى دور ثانوي. أما ألمانيا الشرقية فمن البديهي أنّ إعمارها اعتمد على القطاع العام أيضاً بدعم منظومة اشتراكية لها تجربة عملاقة في أنجح إعادة بالتاريخ (إعمار الاتحاد السوفييتي بعد الحرب).
ب- في رواند بعد الإبادة الجماعية عام 1994: لعبت الحكومة دوراً مركزياً في إعادة بناء الاقتصاد بمبادرات تقودها الدولة في الزراعة والتعليم والبنية التحتية. أما القطاع الخاص فكان ضعيفاً في البداية، وفي الحقيقة فإنه لم ينمُ لاحقاً إلّا بفضل الأساس الذي وضعه القطاع العام تحديداً.
ج- فيتنام: بعد حرب فيتنام، كانت الشركات المملوكة للدولة حاسمة في إعادة بناء الاقتصاد، خاصة في قطاعات مثل الطاقة والنقل والتصنيع.
6– فشل حالات عوّلت على القطاع الخاص لـ«إعادة الإعمار»
غالباً ما تفضل إعادة الإعمار بقيادة القطاع الخاص الربح على المصلحة العامة، مما يؤدي إلى تنمية غير متوازنة وإهمال الفئات الضعيفة. ونذكر دليلاً من العراق (ويمكن أن نتذكّر أيضاً لبنان بعد الحرب الأهلية وما آلت إليه أوضاعه حتى اليوم من انهيارات اقتصادية).
فبعد الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، أدى الاعتماد على المقاولين الخاصين في إعادة الإعمار إلى انتشار الفساد وتجاوز التكاليف والفشل في تقديم الخدمات الأساسية، كما وثّقت تقارير المفتش العام الخاص لإعادة إعمار العراق (SIGIR). وانتقدت أبحاث الكاتبة نعومي كلاين (2007) في كتابها «عقيدة الصدمة» خصخصةَ إعادة الإعمار بعد الحرب، مشيرة إلى أنها غالباً ما تفاقم عدم المساواة وتقوض الاستقرار طويل الأجل.
الخلاصة
تشير أدلة علمية وتاريخية عديدة إلى أنّ القطاع العام وشركاته المملوكة للدولة غالباً يكون ضرورياً لإعادة الإعمار الناجحة بعد الحرب، خاصة في المراحل الأولى عندما يكون الاستقرار والبنية التحتية والخدمات الأساسية مفقودة. وبينما يمكن أن يلعب القطاع الخاص دوراً مكمّلاً، ولكن قيوده في البيئات عالية المخاطر ومنخفضة الربحية تجعله أقل فعالية كقوة دافعة أولى أو رئيسية لإعادة الإعمار. وتوفر المبادرات التي يقودها القطاع العام الأساس الضروري للتعافي الاقتصادي طويل الأجل والاستقرار الاجتماعي. نلاحظ أن هذه النتيجة تتجلّى اليوم أمام أعيننا بكلّ وضوح في سوريا، حيث سيف العقوبات، الأمريكية خصوصاً، ما زال مسلطاً على رقبة سوريا (شعباً وسلطةً) خالقةً أسوأ بيئة مرعبة لرأس المال الخاص، ومن غير المتوقع أن ترفع العقوبات الأمريكية في أيّ سنوات قريبة، كما يظهر لنا تاريخ العقوبات الإجرامية الأمريكية على بلدان وشعوب فرضت عليها قبلنا، مثل العراق وغيره.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1216