المادية الديالكتيكية ضدّ الاختزال الديكارتيّ
ألف العالِمان الراحلان ديك ليفونتين وريتشارد ليفنس كتاباً عام 1985 بعنوان «عالِم البيولوجيا الديالكتيكي». وبحسب مقال سابق في مجلة «الماركسية والعِلم» تم اعتبارهما من أواخر ممثلي تيار من البحّاثة الماركسيين الأمريكيين، بات أضعف اليوم داخل أمريكا. وبحسب المؤلِّفَين: «يعكس كتابنا الصراع بين الديالكتيك المادي الذي نلتزم به عن وعي، والأيديولوجيا الميكانيكية والاختزالية والوَضعيّة التي هيمنت على تعليمنا الأكاديميّ، وتجتاح محيطنا الفكريّ... ومن أجل تتبع البرنامج الفكري لهذا المؤلَّف نرى من الضروري محاولة النقاش الصريح لهذه الطريقة في التفكير». وفيما يلي مقتطفات (بتصرّف) من الفصل الختامي من الكتاب الذي تركّز فيه حديث المؤلِّفَين عن المنهج.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
إنّ أسلوب التحليل السائد للعالَم الفيزيائي والبيولوجي وتوسيعه إلى العالَم الاجتماعي أيضاً، كما آلت إليه (العلوم) الاجتماعية، لطالما كان أسلوبَ الاختزاليّة الديكارتية، التي تتميّز بالتزامها بالموضوعات التالية، والتي تركت بصمتها إلى حد كبير على إنتاج المعرفة:
1- توجد مجموعة طبيعية من الوَحَدات أو الأجزاء تتألف منها أيّة منظومة كلّية.
2- هذه الوحدات متجانسةٌ فيما بينها، وذلك على الأقل بقدر ما تؤثّر على الكلّ الذي هي أجزاءٌ منه.
3 - الأجزاء تسبق الكلّ في وجودها؛ أي أنّ الجزئيّات موجودةٌ في عزلة ثمّ تأتلف معاً لتكوّن الكلّيات. وبأبسط الحالات ليس الكلُّ سوى مجموعِ الأجزاء، وفي حالاتٍ أعقد تسمح التفاعلات بين الأجزاء بإنتاج خصائص إضافية للكلّ.
4- الأسباب منفصلةٌ عن النتائج، وتُعتَبَرُ الأسبابُ خصائص للذوات [للوعي]، والنتائجُ خصائص للمواضيع [للمادة]. وفي حين يمكن للأسباب أن تستجيب لمعلوماتٍ قادمة من النتائج (فيما يسمّى حلقات التغذية الراجعة)، لا يُعتَبَر أنّ ثمة التباس بين الذات المسبّبة والموضوع المُتَسبَّب (وهذا التمييز يستمرّ في علم الإحصاء على هيئة متحوّلاتٍ مستقلّة ومُتحوِّلاتٍ تابعة).
إننا نميّز العالم الموصوف بهذه المبادئ [الديكارتية] أعلاه، بأنه (العالَم المُغتَرِب) أو (المُستَلَب)، بأنّه العالَم الذي يتمّ فيه فصلُ الجزئيّات عن الكلّيات وتَشييْؤها كأشياء في ذاتها، كأسبابٍ مفصولةٍ عن النتائج، كذواتٍ مفصولةٍ عن المواضيع. وهو عالَمٌ فيزيائيٌّ يعكس، كما لو في مرآة، بنية العالَم الاجتماعيّ المُستَلَب الذي تمّ تصوُّرُه فيه.
السياق التاريخي لظهور المذهب الاختزالي
منذ بدايات ممارسة المُقاوَلات التجارية في أوروبا القرن الثالث عشر، وصولاً إلى ذروة الثورات البرجوازية في القرنين 17 و18، شدّدت العلاقات الاجتماعية على أولويّة الفرد المُستَلَب بوصفه فاعلاً اجتماعياً.
وعبر إجراءات التسييج المتعاقبة؛ تمّ سلب الأرض من الفلاّحين الذين كانوا مرتبطين بها سابقاً وهي مرتبطةٌ بهم [التراكم الأولي لرأس المال - المعرّب]. فأمسى الأفراد ذرّاتٍ اجتماعية، تتصادم في السّوق، لكلّ واحد أو واحدة منهم مصلحة خاصة وسماتٌ ملازمة لدوره/ها.
ومع ذلك لم يقتصر الفرد الواحد على دورٍ واحد فقط في المجتمع البرجوازي، فالأشخاص أنفسهم يمكن أن يكونوا مستهلكين ومنتجين، مالكين ومستأجِرين، أسياداً ومسودين. ولكن النظرية الاجتماعية البرجوازية تنظر إلى المجتمع وكأنه مكوّن من مجموعات مصالح متجانسة تماماً. ومن الواضح أنّ الزعم القائل بأنّ النظام الاجتماعي هو نتيجة طبيعية لتعديلاتٍ تضبط مصالح المجموعات المتنافسة، هو صياغة أيديولوجية مقصودٌ بها أن تبدو بنية هذا المجتمع حتمية مطلقة، ولكن هذه الأيديولوجيا تعكس في الوقت نفسه الواقع الذي تمّ إنشاؤه بالفعل... فالعمال مثلاً كأفراد إنما يبيعون قوة عملهم في سوقٍ تمّ وضع شروطها بوساطة الصراعات بين العمّال وأرباب العمل على العموم.
وبطريقة مشابهة، في البيولوجيا والأمراض مثلاً، تصبح إحدى الحلقات السببية المتداخلة هي (السبب) لنتيجةٍ معيّنة، وذلك جزئياً لأنّ الممارسة الاجتماعية تحدّدها بأنها كذلك. على سبيل المثال، في البحث والممارسة الطبية يتم يعزل أسباب بعينها للأمراض ومعالجتها. عصيّة السلّ أصبحت (السبب) لداء السلّ، في مقابل الرأسمالية الصناعية غير المُنظَّمة، وذلك لأنّ هذه الجرثومة تمّ اتخاذها هدفاً للهجوم الطبّي على المرض. والبديل عن ذلك يمكن أن يكون توجّهاً (سياسياً) وليس (طبياً) في مقاربة مرض السلّ، وبذلك لا يعتبر الطبّ أنّ هذا من شأنه في بنية اجتماعية مُستَلَبة. وبالتالي فإنه وإذ يحدّد الجرثومة كسبب للمرض، يصبح لزاماً عليه التعامل مع المرض بأن يبحث عن العلاج في دواء كيميائي لا في ثورة اجتماعية.
ديالكتيك الداء والدواء
أحياناً تنجم المشكلات جزئياً عن الحلول التي اختُرعَت لها بالذات. كما في حالة التنافس بين أجناس من الأعشاب الضارّة، من جهة، ونباتات المحاصيل الزراعية من جهة ثانية. وهذه مشكلة خطرة بالنسبة للمزارعين، ويتم (حلّها) اليوم بالتطبيق الشامل لمبيدات الأعشاب. ولكن ليست كل الأعشاب ضارّة بالمحاصيل، كما أنّ أجناس الأعشاب تتنافس فيما بينها. وبالتالي يؤدي استعمال المبيدات واسعة الطيف إلى القضاء أيضاً على أعشاب نافعة، من تلك التي تتنافس مع الأعشاب الضارّة. وهكذا فإنّ مشكلة الأعشاب الضارّة نشأت جزئياً بوساطة العملية نفسها التي كان يفترض أن تكون حلّاً لها.
ونجد مشكلة مشابهة مع المبيدات الحشرية، حيث يؤدي استعمالها إلى أن تتطور سلالات منها مقاومة للمبيدات التي استعملت للقضاء عليها بالأساس. في هذه الحالات نجد أنّه كلّما زِيدَ العلاج تفاقمت المشكلة.
الظاهرة أعقد من مَساقِطها
ليس ثمة طريقة للتفكير في عالَم الظواهر تستطيع تزويدنا بوصف شامل وكامل بالمطلق لمجموعة الأسباب المتفاعلة والمتداخلة لكلّ الظواهر، لأنها ببساطة مجموعة لا نهائية. ولكنّنا مقتنعون بأنّ النظرة المُستَلبة إلى العالم لا تلتقط سوى ظلالٍ فقيرة من العلاقات الفعلية بين الظواهر، حيث لا تشغل نفسها، إذا استخدمنا تشبيهاً من الهندسة الفراغية، سوى بمساقط الأجسام متعددة الأبعاد على مستويات ثابتة ذات أبعاد أقلّ.
وفي الحقيقة، يضع مذهب الاختزالية الديكارتيّ هدفاً صريحاً له أن يجد مجموعة صغيرة جداً من السبل أو (العوامل) السببية المستقلة التي يمكن استخدامها لإعادة إنشاء نطاقٍ واسع من الظواهر.
فمن التمرينات الأولية مثلاً في الدورات التعليمية للتصميم الهندسي مسألة كيفية جعل مجسم دائري في أحد مساقطه يصير مربعاً في مسقطٍ ثانٍ، ومثلثاً في مسقط ثالث. إنّ العلم المُستَلَب يتعامل مع العالَم المستَلَب لهذه المساقط، في حين تسعى النظرة الديالكتيكية إلى فهم المجسَّم في أبعاده الكاملة. وبالطبع يمكن أحياناً أن تنجح الاستراتيجية الاختزالية ولكن في حالات أقل (عندما يكون المجسّم كرةً مثلاً).
إنّ خطأ المذهب الاختزالي عندما يتخذ كوجهة نظر عامّة، أو كمنهجٍ عامّ، يكمن في أنه يفترض الظواهر ذات الأبعاد الأعلى بأنها «تتألّف» نوعاً ما من مساقطها ذات الأبعاد الأدنى، وأنّ هذه الأخيرة تملك أولوية وجودية وتقبع في عزلة، بوصفها الأجزاء «الطبيعية» التي يتكوّن منها الكلّ.
فالعِلم الاختزالي يضع لنفسه مهمة العثور على أصغر الوحدات المتجانسة داخلياً التي يتألف منها العالَم. ويشكّل تاريخ علم الكيمياء والفيزياء مثالاً نموذجياً على هذه النظرة. ففي الكيمياء الكلاسيكية تتكون الأجسام المجهرية من مزيج من المركبات، كان ينظر إلى كل منها على أنها متجانسة ضمن نفسها. ومع تطور النظرية الذرية للمادة، صار ينظر إلى هذه الجزيئات بأنها مكونة من مزيج من الذرات من أنواعٍ مختلفة، مما غيّر النظرة إلى الجزيئات فاعتبرت غير متجانسة داخلية على العموم.
بعد ذلك تبيّن بأنّ الذرات نفسها تدحض تسميتها التاريخية (atoms تعني غير القابل للتقسيم)، لاكتشاف بأنها غير متجانسة داخلياً، حيث تتكون من نوترونات وبروتونات وإلكترونات... وهكذا دواليك.
بالمقابل، ينظر المنهج الديالكتيكي إلى الأشياء بأنها منذ البداية غير متجانسة داخلياً على كلّ مستوى. وهذا لا يعني أن الجسم (أو المنظومة) يتألف من وحدات طبيعية ثابتة. بل يمكن أن يكون التقسيم «الصحيح» للكلّ إلى أجزاء بحسب اعتبارات متنوّعة، تعتمد على أيّ الجوانب الخاصة من الظاهرة هي التي تخضع للبحث والدراسة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1166