«العاَلم المتحضّر» يبيد الأطفال بالذكاء الاصطناعي

«العاَلم المتحضّر» يبيد الأطفال بالذكاء الاصطناعي

تحدّث تحقيق صحفي مشترك أجرته مجلّتا «+972» وLocal Call حول الحرب الصهيونية الحالية على قطاع غزة، عن دور استخدام جيش الاحتلال برنامجاً خاصّاً للذكاء الاصطناعي في التوسيع الكبير لأهداف القصف والتدمير في غزة. وعدا عن «الدقّة» التي يتحدث عنها القَتَلة الصهاينة، قاموا بتلقيم البرنامج بمفهومهم الإجرامي المسمّى «الأضرار الجانبية المدنية المسموح بها» ليتبيّن بالتطبيق العملي وباعترافاتهم بأنّها ليست «جانبية» أو على الهامش، بل هي في مَتْن الصفحة السوداء «لإنجازاتهم» العسكرية المزعومة.

يشكّل التحقيق الذي أجرته وسيلتا الإعلام المذكورتان ونُشِرَ في 30 تشرين الثاني الفائت، إدانةً للصهاينة على ألسنتهم بالذات. حيث استند التحقيق الذي أعدّه يوفال أبراهام، إلى «محادثات مع 7 أعضاء حاليين وسابقين في مجتمع الاستخبارات «الإسرائيلي» – بما في ذلك أفراد المخابرات العسكرية والقوات الجوية الذين شاركوا بالعمليات «الإسرائيلية» في القطاع المحاصر – بالإضافة إلى شهادات وبيانات ومعلومات فلسطينية، ووثائق من قطاع غزة، وتصريحات رسمية للمتحدث باسم الجيش «الإسرائيلي» ومؤسسات الدولة «الإسرائيلية» الأخرى».
وقال التحقيق الذي حمل عنوان «مصنع اغتيالات جماعية داخل القصف «الإسرائيلي» المحسوب على غزة» إنه «يبدو أنّ توسيع نطاق تفويض الجيش «الإسرائيلي» لقصف أهداف غير عسكرية، وتخفيف القيود المتعلقة بالخسائر المتوقَّعة في صفوف المدنيين، واستخدام نظام الذكاء الاصطناعي لتحديد المزيد من الأهداف المحتملة أكثر من أيّ وقت مضى، قد ساهم في الطبيعة التدميرية...» ولعب دوراً في إنتاج «إحدى أكثر الحملات العسكرية دمويّة ضد الفلسطينيين منذ نكبة عام 1948».
واعترفت العديد من المصادر «الإسرائيلية» التي تحدّث إليها التحقيق بشرط عدم الكشف عن هويتها، أنّ جيش الاحتلال «لديه ملفّات حول الغالبية العظمى من الأهداف المحتملة في غزة بما فيها المنازل وعدد المدنيين... وهذا الرقم محسوب ومعروف مسبقاً لوحدات استخبارات الجيش، التي تعرف أيضاً قبل وقت قصير من تنفيذ الهجوم العددَ التقريبي للمدنيين الذين من المؤكَّد أنهم سيُقتَلون».
وأقرّت المصادر بأنّ القيادة العسكرية الصهيونية «وافقت عن علم على قتل مئات المدنيين الفلسطينيين في محاولة لاغتيال كبار القادة العسكريين في حماس». وقال أحد المصادر «ارتفعت الأعداد من عشرات القتلى المدنيين [المسموح بهم] كأضرار جانبية كجزء من هجوم على مسؤول كبير في العمليات السابقة، إلى مئات القتلى المدنيين كأضرار جانبية».
واعترف مصدر عسكري آخر «لا شيء يحدث بالصدفة... عندما تُقتل فتاة في الثالثة من العمر في منزل بغزة، فذلك لأن أحد أفراد الجيش قرّر أنّ قتلها ليس بالأمر الكبير... كلّ شيء متعمَّد، نحنُ نعرف بالضبط حجم الأضرار الجانبية الموجودة في كلّ منزل».

دماغٌ فاشيّ بذكاء اصطناعيّ

ووفقاً للتحقيق، ساهم بالعدد الكبير من الأهداف والأضرار الجسيمة والجرائم التي لحقت بالحياة المدنية بغزة، الاستخدامُ الواسع لنظامٍ يسمّى «الحبسورة» (وتعني الإنجيل)، يستند إلى الذكاء الاصطناعي ويستطيع «توليد» أهداف تلقائياً تقريباً بمعدّل يتجاوز بكثير ما كان ممكناً بالسابق. نظام الذكاء الاصطناعي هذا، كما وصفه ضابط مخابرات سابق، يسهّل بشكل أساسي إنشاء «مَصنع اغتيالات جماعية».
وقال مصدر آخر إنّ قائد استخباراتٍ كبيراً أخبرَ ضبّاطه بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول أنّ الهدف هو «قتل أكبر عدد ممكن من نشطاء حماس»، الأمر الذي أدى بحسب وصفه إلى «تخفيف المعايير المتعلقة بإيذاء المدنيين الفلسطينيين بشكل كبير» (علماً بأنّ هذا التعبير محاولة للإيحاء الكاذب بأنّ حياة المدنيّين تهمّهم أصلاً). وقال إنّ هناك «حالات نقصف فيها عبر خلية واسعة تحدد مكان الهدف، ما يؤدي لمقتل مدنيين... يتم ذلك غالباً لتوفير الوقت، بدل المزيد من العمل للحصول على تحديدٍ أكثر دقّة».
تبيّن اعترافاتٌ كهذه بأنّ ما يستخدمونه هو أسوأ بكثير حتّى مما يسمّى «القصف العشوائي». حتى أنّ القصف «العشوائي» و«غير الذكي» قد يخلّف ضحايا أقلّ من الاستهداف المتعمّد و«الذكي اصطناعياً» للأهداف التي تعجّ بالمدنيين المعتَبرين في العقيدة الفاشية الأمريكية-الصهيونية «أضراراً جانبية».
ويذكّر التحقيق الصحفي بأنّ نتيجة هذه السياسات كانت «خسارة فادحة في الأرواح البشرية في غزة منذ 7 أكتوبر. حيث فقدت أكثر من 300 أسرة 10 أو أكثر من أفرادها في القصف «الإسرائيلي» خلال الشهرين الماضيين - وهو رقم أعلى بـ 15 مرة من المسجَّل في العام الماضي. كانت الحرب الأكثر دموية التي شنتها «إسرائيل» على غزة سابقاً، في عام 2014. وحتى وقت كتابة هذا التقرير، تم الإبلاغ عن مقتل حوالي 15000 فلسطيني في الحرب، وما زال العدد في ازدياد».

المهزوم المتعلِّق بالقشّة «الذكيّة»

بحسب التحقيق، زعم مصدرٌ أنّ «كل هذا يحدث خلافاً للبروتوكول الذي استخدمه الجيش «الإسرائيلي» في الماضي»، ولكن كان لافتاً ومهمّاً السبب الذي أعطاه لذلك، حيث قال «هناك شعور بأنّ كبار المسؤولين في الجيش يدركون فشلهم في 7 أكتوبر، ومنشغلون بمسألة كيفية تقديم صورة [للنصر] للجمهور «الإسرائيلي» من شأنها إنقاذ سمعتهم».
منذ اللحظة الأولى بعد هجوم 7 أكتوبر، أعلن صناع القرار في «إسرائيل» صراحةً أنّ «الردّ» سيكون بحجم مختلف تماماً عن العمليات العسكرية السابقة في غزة، بهدف معلن هو القضاء على حماس تماماً (وهو ما فشلوا فيه بالطبع). وعندما يقول المتحدث باسم جيش الاحتلال دانييل هاغاري في 9 أكتوبر«يتم التركيز على الضرر وليس على الدقة»، تنكشف على الفور المفارقة المثيرة للسخرية المريرة، وتنكشف الحقيقة، فالذكاء الاصطناعي عندما يستخدمه هذا العقل الفاشيّ، يكون الغرض منه ليس «الدقّة» في تحييد المدنيين بل العكس، الدقّة العالية تماماً في الانتقام الجبان والوحشي من المدنيّين وسياسةَ أرضٍ محروقة مع شعبها، ولكن «محروقة بذكاء».

اعترافات بقتل المدنيّين كأولويّة

يقول التحقيق الذي أجرته المجلّتان (+972 وLocal Call)، واستناداً إلى مصادرهما «الإسرائيلية» إنّه يمكن تقسيم الأهداف التي قصفتها طائرات الاحتلال في غزة إلى أربع فئات تقريباً: 1- الأهداف التكتيكية، 2- الأهداف تحت الأرض، 3- أهداف «السلطة»، 4- منازل العائلات أو منازل النشطاء.
ويستنتج التحقيق بأن جيش الاحتلال أَولى اهتماماً خاصاً للفئتين الثالثة والرابعة من الأهداف، حيث وفقاً لتصريحات المتحدث باسمه في 11 أكتوبر، خلال الأيام الخمسة الأولى من العدوان، تم اعتبار نصف الأهداف التي تم قصفها (1329 من إجمالي 2687) هي «أهداف سلطة»، والمقصود أنها تشمل المباني الشاهقة والأبراج السكنية في قلب المدن، والمباني العامة مثل الجامعات والبنوك والمكاتب الحكومية – هذا يعني أهدافاً مدنية بمعظمها بغض النظر عن التسمية المضلّلة «أهداف السُّلطة». واعترفت ثلاثة مصادر استخباراتية صهيونية بأنّ الفكرة وراء ضرب هذه الأهداف هي الهجوم المتعمّد على المجتمع الفلسطيني لممارسة «ضغط مدني على حماس».
وقال التحقيق الصحفي وفقاً لمصادره الصهيونية التي شاركت في الحروب السابقة في تجميع بنك أهداف هذه الفئة الرابعة إنّه: «على الرغم من كون ملف الهدف يحتوي عادةً نوعاً من الارتباط المزعوم بحماس أو الجماعات المسلحة الأخرى، فإنّ ضربه يعمل بالمقام الأول كوسيلة لإلحاق الضرر بالمدنيين والمجتمع. وفَهمِتْ المصادر، بعضها صراحةً وبعضها ضمنياً، أنّ إلحاق الضرر بالمدنيين هو الهدف الحقيقي لهذه الهجمات».

مخاطر الذكاء الصناعي بحسب «العالَم المتحضّر»

يكشف لنا مثال برنامج «الحابتسورة» «الإسرائيلي» للإبادة الجماعية بالذكاء الاصطناعي، جانباً آخر من النّفاق الغربي والانتقائية في تضخيم جوانب من الاستخدامات الضارّة للتكنولوجيا، في حين يتم التعامي عن أضرار أخرى أفدح وأخطر. فلننظرْ إلى الخطاب العالَمي السائد حول ما هي أضرار الذكاء الصناعي، سنجدهم يركّزون على أشياء مثل، فبركة الصور الزائفة للمشاهير من رؤساء وفنانين، و«انتهاك خصوصية» الأفراد، وما إلى ذلك. مثلاً، قام كاتب هذا المقال بطرح سؤال بسيط على برنامج الذكاء الاصطناعي الشهير ChatGPT حول «ما هي أكثر عشرة مخاطر للذكاء الاصطناعي؟». وفي جواب البرنامج لم يتمّ ذكر كلمة «الأسلحة» سوى مرة واحدة، وفي المرتبة الخامسة من قائمة الأخطار العشرة الأولى، وذلك تحت عنوان «قضايا أخلاقية». وجاءت القائمة وفق جواب البرنامج كما يلي (وهو ما يعكس لنا ترويج الأولويات السائد غربياً بهذا الخطاب): 1- الانحياز وعدم العدالة، 2-إزاحة الوظائف، بمعنى زيادة البطالة بحلول الآلة مكان العمال. 3- هواجس أمنية (بمعنى العرضة للهجمات السيبرانية التي تشكل مخاطر على الخصوصية والأمن القومي) 4-نقص الشفافية. أمّا «إزاحة» حياة الآلاف من الأطفال والمدنيين من الوجود والتوظيف الأمريكي-الصهيوني للذكاء الاصطناعي للإبادة الجماعية فلا نجد مكاناً لها في هذه القائمة الرسمية السائدة «للمخاطر» بحسب العالَم الإمبريالي «المتحضّر»، إلا بشكلٍ غير مباشر وبعيد وفي المرتبة الخامسة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1151
آخر تعديل على السبت, 09 كانون1/ديسمبر 2023 16:17