«الثورة» و«الثورة المضادّة» في العلم أيضاً (2)
فلاديمير أتسوكوفسكي فلاديمير أتسوكوفسكي

«الثورة» و«الثورة المضادّة» في العلم أيضاً (2)

في الجزء الثاني من هذه المادة نستعرض نظرة العالِم السوفييتي أتسوكوفسكي لتطوّر التكنولوجيات بالتوازي مع «جدول التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية» المعروف عند دارسي المادّية التاريخية، ثمّ الاستنتاجات التسعة والمهمّات الأربعة التي يصوغها الكاتب للعلوم الطبيعية اليوم.

تعريب: د. أسامة دليقان

يوضِّحُ أتسوكوفسكي في الجدول التالي العلاقة بين الثورات في العلوم الطبيعية، ونموّ المعرفة، ونوع الطاقة المستخدمة كأساس تكنولوجي للإنتاج، ونمط التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية (مع الانتباه بأن الاشتراكية مرحلة انتقالية بين تشكيلتين)

1133b

ترتبط الثورات في العلوم الطبيعية بانتقال العلم إلى مستويات أعمق في فهم تنظيم المادة. كلّ انتقال من هذا القبيل أعطى الإنسانية معرفةً جديدة بشكل جذريّ. في الوقت نفسه، كانت هناك حاجةٌ لتطوير أنواعٍ جديدة من المواد الخام وأنواع جديدة من الطاقة، التي أعطى تطوّرها دفعةً قويةً لتطوّر القوى المنتِجة، لكنّه كان يتعارض مع علاقات الإنتاج القائمة في ذلك الوقت؛ أي مع شكل ملكية عناصر الإنتاج. في الواقع، تساهم المعارف الجديدة المكتسبة تباعاً عن الطبيعة في تحديد مجرى التطوّر البشري بأكمله.

بالنسبة للفترة الحالية من التطوّر البشري، تمّ الحفاظ على جميع الأحكام المذكورة أعلاه. الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية في روسيا تسبَّبَ في حدوث طفرةٍ في الاقتصاد، لكنّ التحوّل المعاكس إلى الثوّرة المضادّة دمّر المنظومة الاقتصادية التي نشأت خلال سنوات السلطة السوفييتية، ولم يخلق اقتصاداً جديداً. في كلّ ما يسمى بالبلدان الرأسمالية، اضطرّت السلطات منذ فترة طويلة إلى إدخال عدد من التقديمات لشعوبها أمام ضغط منافسة النموذج الاشتراكي، لكن نمط الإنتاج الرأسمالي السائد الذي لا يزال محتفظاً به عموماً يواصل توليد جميع أنواع الأزمات المذكورة أعلاه. وسوف تتصاعد هذه المشكلات حتماً حتى يؤدّي حلّها في النهاية إلى التأسيس الشامل لعلاقات الإنتاج الاشتراكية بدايةً، ثم الشيوعيّة.

وبالتالي، فإنّ تطوير قوى الإنتاج مستحيلٌ عمليّاً دون إقامة علاقات إنتاجٍ مناسبة. ومع ذلك، فإنّ تطوُّر العلم والتكنولوجيا بالذات يؤدّي إلى تفاقم التوتّر الاجتماعي، ونتيجةً لذلك، إلى ثورةٍ اجتماعيّة. وعلى الرغم من أنّ العديد من مجالات العلوم والتكنولوجيا لا يطالب بها أحد في الوقت الحالي، فمن الممكن والضروري العمل على تنميتها وتطويرها، لأنها هي التي تُحضّر للثورة الاجتماعية والانتقال إلى تشكيلةٍ اقتصادية-اجتماعيّة تصبح فيها مطلوبةً هذه المجالات العلمية والتكنولوجيّة. وفي هذا الصدد، يجب علينا إنجاز الأعمال المتأخِّرة المتراكمة.

الاستنتاجات

1. من أجل خلق الخيرات الاستهلاكية التي لا يمكن للناس أنْ يعيشوا دونها، فإنّ الإنتاج الاجتماعي ضروريٌّ. ويتضمن الإنتاج الاجتماعي سلسلةً متناسقةً من العناصر، الطبيعة– العلوم الطبيعية (معرفة بنية الطبيعة) – التكنولوجيا– وسائل الإنتاج (التكنولوجيا) – المنتجات الاستهلاكية– الإنسان نفسه؛ حياته، وقوة عمله، وفائض عمله. ويحدّد كلُّ عنصرٍ من عناصر الإنتاج متطلَّبات العنصر السابق ويضمن وجود العنصر اللاحق.

2. يتم تحديد مستوى القوى المنتجة بشكل أساسي من خلال حالة العلوم الطبيعية. في مرحلة معينة من التطور، تدخل قوى الإنتاج في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة، وهذا يؤدّي إلى أزمة في التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية القائمة في تلك اللحظة التاريخية. وهكذا، فإنّ التطور الاجتماعي للمجتمع يتحدَّد في البداية بحالةِ وتطوّر العِلم. في الوقت نفسه، يمكن أن يؤدّي التخلُّف في العلوم الاجتماعية ليس إلى إبطاء تطوّر المجتمع وحسب، بل ويؤدي أيضاً إلى عكسه في بعض المراحل، وهو ما حدث في الثمانينيّات من القرن العشرين. لذلك، من الضروري إيلاء اهتمامٍ خاصّ لتطور العلوم، سواء العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية، دون انتظار استعادة الظروف المواتية. في الوقت نفسه، يجب أنْ يؤخَذَ في الاعتبار أنَّ المعرفة المتراكمة بوساطة العلوم الطبيعية حول الطبيعة يتم الحفاظ عليها إذا تمّ تطبيقها في التكنولوجيّات القائمة، أمّا المعرفة التي لا يتمّ تثبيتُها في تكنولوجيّات فإنّها تضيع حتماً.

3. يواجِه العلم الطبيعيّ اليوم أربع مهمّات، أوّلاً، إحياء الفلسفة الماديّة وخلق منهجيّة مادّية للعلوم الطبيعية على أساسها. ثانياً، مراجعة كلّ ما حقَّقتُه العلوم الطبيعية، بما في ذلك مراجعةٌ نقديةٌ لما يسمّى بقوانين الطبيعة «التي تمّ التحقُّق منها جيّداً» والبيانات التجريبية. ثالثاً، الكشف عن الآليات الداخلية للظواهر الفيزيائيّة الرئيسة. رابعاً، تحديد ميادين بحث جديدة. إنّ حلّ هذه المشكلات سيجعل من الممكن اتّباعُ نهجٍ مختلف لتطوير الإنتاج الاجتماعي القائم على التكنولوجيّات الجديدة.

4. جميع التكنولوجيّات، بغض النظر عن التطبيق المحدَّد ومجال الاستخدام، لها بعضُ السمات المشتركة: تهدف جميع التكنولوجيّات إلى إنتاج سلعٍ معيّنة «في نمط الإنتاج البضاعي» أو منتوجات وسيطة للإنتاج اللاحق للسّلع (يمكن اعتبار المعرفة التي يتمّ الحصول عليها في عملية تطبيق تكنولوجيا المعلومات بمثابة سلعٍ معلوماتيّة) – تستند جميع التكنولوجيّات إلى القوانين الطبيعية المدروسة وهي تطبيقٌ عمليّ للمعرفة المتعلّقة بالطبيعة التي تمّ الحصول عليها عن طريق العلوم الطبيعية– يكمن تطوير التكنولوجيّات في الانتقال من التكنولوجيّات التي تمّ إتقانُها إلى تكنولوجيّاتٍ جديدة، ممّا يؤدي إلى زيادة كفاءة الإنتاج أو جودة المنتج وانخفاض تكاليف الإنتاج– تعكس التكنولوجيّات علاقات الإنتاج الاجتماعية التي تعتمد على الغرض من الإنتاج؛ الحصول على أقصى ربح (في ظل الرأسمالية) أو الحصول على أقصى فائدة للناس (في ظلّ الاشتراكية والشيوعية).

5. من أجل تنفيذ أيّ تكنولوجيا، يتم استخدام الطاقة والموادّ الخام بالضرورة، وبالتالي، فإنّ قدرات الطاقة والمواد الخام تحدِّدُ بشكلٍ كبير إمكانيّة استخدام تكنولوجيّات معيَّنة؛ لطالما حفَّز ظهورُ طرقٍ جديدة للحصول على الطاقة والمواد الخام على ابتكار تكنولوجيّات جديدة. وعلى الرغم من الكفاءة العالية للتكنولوجيّات الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين، لكنّ ظهورها لم يؤدِّ إلى التخلّص من مشكلات المواد الخام والطاقة، ليس هذا فحسب، بل وأدى أيضاً إلى تفاقم المشكلات البيئية والاجتماعية.

6. إنّ الحل الجذريّ لمشكلة البيئة والمواد الخام والطاقة هو الانتقال إلى تكنولوجيّات خاليةٍ من النفايات «ومغلَقة» مُوفِّرة للمواد الخام. ويتمثَّلُ الحل الأساسي لمشكلة الطاقة في تطوير محطات توليد طاقةٍ مثل المضخّات الحرارية، ويجب اعتبار أكثر المضخّات الحرارية الواعدة هي تلك «الأثيرية» المستندة إلى استخدام الطاقة الكامنة في «الأثير».

7. إنّ تطوير التكنولوجيا، وعلى الأخصّ أتمتَتُها، يثيرُ مرّة أخرى مسألة التفاعل بين الإنسان والتكنولوجيا، وما هي الأدوار التي يجب على الإنتاج الاجتماعي أن يخصّصها لكلٍّ من التكنولوجيا والبشر، إلى جانب الأنظمة التقنيّة المشاركة في العملية التكنولوجية.

8 - ترتبط ثورات العلوم الطبيعية والتكنولوجيّة والاجتماعيّة ارتباطاً وثيقاً ببعضها بعضاً: فتراكم المعرفة عن الطبيعة يمهّدُ لثورة تكنولوجيّة- بمعنى الانتقال إلى تكنولوجيّات تقدّمية جديدة. وإدخال تكنولوجيّات جديدة في الإنتاج الاجتماعي هو مرحلة جديدة في تطوّر القوى المنتِجة. وبدوره تطوُّر قوى الإنتاج مع بقاء علاقاتِ إنتاجٍ عفا عليها الزّمن يمهّد لثورةٍ اجتماعيّة- للانتقال إلى تشكيلة اقتصاديّة اجتماعيّة تقدّمية جديدة.

9- في المرحلة الراهنة من تطوّر المجتمع، من المستحيل إدخالُ تكنولوجيّات جديدة دون استعادة الاقتصاد المخطَّط ورفضِ نمط الإنتاج الرأسماليّ الذي يَحُوْل دونَ إدخال تكنولوجيّات جديدةٍ لمجرّد أنّها تهدّده بفقدان التربُّح من إنتاج السّلع الاستهلاكية.

نبذة عن المؤلّف: راجع مقال «أثيروديناميك أتسوكوفسكي وإعادة الفيزياء إلى جادّة المادّية» في العدد 970 من «قاسيون»، 15 حزيران 2020.

(الجزء الأول)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1133
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 11:56