تباطؤ الاختراقات العلمية دليلٌ على اشتداد رجعيّة الرأسمالية

تباطؤ الاختراقات العلمية دليلٌ على اشتداد رجعيّة الرأسمالية

نشرت مجلة «الطبيعة» البريطانية، في 4 كانون الثاني الجاري 2023، تلخيصاً لدراسةً لاحظت بأنّ «نسبة المنشورات العلمية، في أيّ حقلٍ علمي، من النوع الذي يدفعه إلى اتجاهٍ جديد، قد انخفضت على مدى نصف القرن الماضي»، وأنّه ساد ميل عام هابط لمعدّل الاختراقات العلمية النوعية رغم التزايد الكمّي للمنشورات بعد منتصف القرن العشرين ولبراءات الاختراع بين 1976 إلى 2010. ومع ذلك لم تقدّم الدراسة تفسيرات مقنعة أو عميقة، بل وأبرزت مجلة «الطبيعة» في عنوان ملخّصها بأنّ «لا أحد يعرف لماذا». هذا ليس مستغرباً، فالسبب يحتاج للاعتراف أولاً بصحّة نظرية التراجع العام للحركة الثورية العالمية خلال الفترة نفسها التي رَصدتْ فيها الدراسةُ تباطُؤَ العِلم.

يبدأ تلخيص المجلّة للدراسة (بقلم مارك كوزلوف) بملاحظة أنّ عدد الأوراق البحثية العلمية والتكنولوجية المنشورة قد ارتفع بشكل كبير خلال العقود القليلة الماضية، لكنّ نسبة «الخروقات» العلمية التي حققتها تلك الأوراق قد انخفض، وذلك وفقاً لتحليل حول مدى انزياح الأوراق البحثية بشكل جذري عن الأدبيات السابقة، وأنّ البيانات المأخوذة من ملايين المخطوطات، وبالمقارنة مع فترة أواسط القرن العشرين مثلاً، أظهرت أنّ الميل العام للأبحاث التي أجريت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان باتجاه دفع العلم إلى الأمام تدريجياً بدلاً من التغيير الجذري الكبير إلى اتجاه جديد يجعل العمل السابق قديماً. كذلك أظهر تحليل براءات الاختراع من عام 1976 إلى 2010 هذا الميل الهابط نفسه.
يقول راسل فونك، عالم الاجتماع في جامعة مينيسوتا في مينيابوليس والمؤلف المشارك بالدراسة التحليلية نفسها: «تشير البيانات إلى أنّ شيئاً ما يتغيّر... ليس هناك الكثافة نفسها بالاكتشافات الخارقة التي كانت تحصل من قبل».

كيف قاسوا جذريّة الأبحاث؟

استنتج المؤلفون أنه في تلك الدراسات التي مثّلت خرقاً علمياً نوعياً قوياً (سنميّز دراسات كهذه بأنها «دراسة خارقة»)، كانت أغلبية الأبحاث اللاحقة تهمل ذكر المراجع التي اعتمدت عليها الدراسة الخارقة الأصلية، وبدلاً من ذلك يتم الاستشهاد بتلك الدراسة الخارقة نفسها، التي اعتبرت بحد ذاتها نقطةً مرجعية كبيرة. وبناءً على هذه الملاحظة وباستخدام بيانات الاقتباس من 45 مليون مخطوطة و3.9 مليون براءة اختراع، قام الباحثون بابتكار مؤشّر خاص لقياس مدى «الخَرْق» العلمي الذي تأتي به الدراسات، واصطلحوا على إعطاء هذا المؤشر قيماً متدرّجة ما بين -1 للأبحاث الأقل خرقاً علمياً إلى +1 للأبحاث الأكثر خرقاً.
ولاحظوا بأنّ القيمة الوسطية لهذا المؤشر قد انخفضت بأكثر من 90% ما بين عامي 1945 و2010 للمخطوطات البحثية، وبنسبة تزيد عن 78% بين عامَي 1980 إلى 2010 لبراءات الاختراع.
كما لاحظ مؤلّفو الدراسة انخفاض معدّل الخَرْق العلمي النوعي في جميع مجالات البحث (في العلوم الاجتماعية، والتكنولوجيا، والعلوم الفيزيائية، وعلوم الأحياء والبيولوجيا والطب)، وكذلك في جميع أنواع براءات الاختراع التي تمّ تحليلها، حتى عندما أُخذتْ في الاعتبار الاختلافات المحتملة في عواملَ مثل تنوّع أساليب وممارسات الاستشهاد والاقتباس في أدبيّات النشر العلمي.
قام المؤلفون أيضاً بتحليل «الأفعال» اللغوية الأكثر شيوعاً المستخدمة في نصوص المخطوطات العلمية، فوجدوا أنه بينما كان من المرجح أنّ تَستخدم الأبحاث في الخمسينات من القرن العشرين كلماتٍ تستحضر الخلق أو الاكتشاف والابتكار، مثل «إنتاج» أو «تحديد» (نوعياً)، كان من المرجح أن تشير في عام 2010 إلى تزايد التقدم فحسب (كمّياً)، باستخدام مصطلحات مثل «تحسين» أو «تعزيز».
يقول داشون وانغ، عالم الاجتماع الحاسوبي في جامعة نورث وسترن في إيفانستون، بولاية إلينوي الأمريكية، والذي يدرس الاختراقات في العلوم: «إنه لأمرٌ رائع أنْ نرى هذه الظاهرة موثَّقةً بهذه الطريقة الدقيقة... إنهم ينظرون إلى هذا من خلال مئة طريقة مختلفة، وأجده مقنعاً للغاية بشكل عام».
أشارت أبحاث أخرى إلى أنّ الابتكار العلمي قد تباطأ أيضاً في العقود الأخيرة، كما يقول «ييان يين»، وهو أيضاً عالم اجتماع حاسوبي في نورث وسترن. ويضيف أنّ هذه الدراسة تقدم «بداية جديدة لطريقة تعتمد على البيانات للتحقيق في كيفية تغيُّر العلم».
ويرى جون والش، المتخصّص في سياسات العلوم والتكنولوجيا في معهد جورجيا للتكنولوجيا في أتلانتا الأمريكية، بأنّ النموذج الأمثل هو مزيج صحّي من الأبحاث الإضافية (كمياً) والخارقة (نوعياً).

تعقيب حول ما لم تذكره «الطبيعة»

محرّر المقال الذي لخّص الدراسة في مجلة «الطبيعة»، مارك كوزلوف، ختمه بإيراد آراء مختارة من الخبراء الذين حاولوا نسب الظاهرة لعوامل معيّنة، ولكنها جاءت جزئية وغير عميقة أو مقنعة، فعلى سبيل المثال نقل عن والش قوله «من المهم فهم أسباب التغييرات الجذرية. قد ينبع هذا الاتجاه جزئياً من التغييرات في المؤسسة العلمية. على سبيل المثال، يوجد الآن عدد أكبر من الباحثين مما كان عليه في الأربعينات، مما خلق بيئة أكثر تنافسية وزاد من المخاطر لنشر الأبحاث والسعي إلى الحصول على براءات اختراع. وقد أدى هذا بدوره إلى تغيير الحوافز لكيفية قيام الباحثين بعملهم. أصبحت فرق البحث الكبيرة، على سبيل المثال، أكثر شيوعاً»، كذلك أورد رأي وانغ وزملائه بأنّ «الفرق الكبيرة من المرجَّح أنْ تنتج علماً تدريجياً [تغيراً كمّياً] أكثر من إنتاج العلوم التي تحقق خروقات [نوعية]». وعاد إلى والش الذي تابع بشيء من الحيرة بأنّ: «العثور على تفسير لهذا التراجع لن يكون سهلاً. على الرغم من انخفاض نسبة الأبحاث الخارقة بشكل كبير بين عامي 1945 و2010، إلا أنّ عدد الدراسات الخارقة بشدّة ظلّ كما هو تقريباً. كما أنّ معدّل الانخفاض محيّر أيضاً: فقد انخفض مؤشر الخرق العلمي بشكل حادّ من عام 1945 إلى عام 1970، ثم تدريجياً منذ أواخر التسعينيات إلى عام 2010».
ورغم أنّ النقطة المتعلقة بطريقة التنافسية والتقييم في المؤسسات الرأسمالية التي أوردها والش أعلاه قد يكون لها دور، ولكن السبب العميق على الأرجح هو ليس التنافسية بحدّ ذاتها ولا «كبر حجم الفرق» كما شدّد هو ووانغ، بل في خضوع عمليات تشجيع ودعم العلماء (وموضوعات البحث) أو تثبيطهم وإهمالهم، إلى معايير رأسمالية ربحية ضيقة الأفق، سواء كانت الطواقم البحثية صغيرة أم كبيرة، وهو الأمر الذي لم يأتِ على ذكره مقالُ مجلة الطبيعة ولا الخبراء الذين استضاف آراءهم.
ومع ذلك تبقى نتيجة هذه الدارسة مهمّة وتضاف إلى جملة متزايدة من الأدلّة على ظاهرة التأثير الرجعي على العلم للرأسمالية المأزومة وعلاقات إنتاجها التي استنفدت صلاحيتها التاريخية، بحيث إنها تعرقل تطوّر العِلم بالسرعة والنوعية التي تليق بمستوى تطوّر القوى المنتجة.
يجدر بالذكر بأنّ «قاسيون» سبق ونشرت على صفحاتها العلمية عام 2022 عدداً من المواد التي أضاءت على ظاهرة «أزمة العلم» المعاصرة هذه، من زوايا مختلفة وبعددٍ من الأمثلة، نذكر بعض عناوينها مع تاريخ النشر (2022): ثلاثة أدلّة على ركود العِلم و«الإبداع» في أمريكا (31/10). وثيقة سرّية أمريكية عن تقدّم العلوم السوفييتية (10/10). الحاجة لتغيير المنهج السائد برعاية الأبحاث لعدم خسارة «المغمورين» (26/09). «تقنين» الطاقة يهدّد مكانة أوروبا العِلمية ويعرقل تجارب الفيزياء (18/09). «العمل الذهني» والإبداع... نظرة على أبحاث ماركسية حديثة (21/03). كذلك حظيت هذه الظاهرة بمعالجة خاصّة في عدد من مواد «قاسيون» الثقافية، منها: أشكال دفاع الحياة عن نفسها: أزمة «البحث في أزمة الإبداع» مثالاً (21/11). قضية الإبداع العلمي كقضية أزمة عقل المرحلة ومستقبلها (14/11). الانزياح العلمي ومؤشرات العالم الجديد (28/08). وسلسلة «عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن» (اعتباراً من 19-12-2022).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1104