«مُدُن العلوم» الصينية تعزِّز تفوّقها عالَمياً
أظهرت الصين، بريادة من مُدنِها الكبرى وخاصةً بكين وشنغهاي، تسارعاً في الابتكار العلمي والتكنولوجي خلال السنوات الأخيرة، مما زاد تأثيرها الدّولي وجذب مواهب إضافية. تحتل بكين المرتبة الأولى بين مدن العالَم من حيث إنتاج البحث العلمي، وفقاً لمؤشر صدر أواخر تشرين الثاني 2022 عن مجلة «الطبيعة» البريطانية، لتحافظ العاصمة الصينية بذلك، وللعام السادس على التوالي، على المرتبة الأولى عالمياً منذ أنْ أطاحت بنيويورك من على عرش هذا التصنيف لأول مرة عام 2016. يرصد التقرير التالي جوانب من هذا التطوّر، وفق ما نُشر على الموقع الرسمي للأكاديمية الصينية للعلوم بتاريخ 30 كانون الأول 2022 تحت عنوان «الأمّة تحثّ الخطا للابتكار العلمي والتكنولوجي».
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
تم إصدار مؤشر Nature بواسطة وكالة النشر العلمية والتكنولوجية المشهورة عالمياً Springer Nature، وهو مؤشر يتتبع النتائج البحثية المنشورة في 82 مجلة رفيعة المستوى متخصصة بالعلوم الطبيعية، حيث يقدم نظرة واسعة لمخرجات البحوث العالمية عالية الجودة والتعاون. وتحتل بكّين ما يقرب من 20% من إنتاج البحوث الوطنية في المؤشر المذكور. ومن بين أكبر 500 وكالة بحثية في العالم، توجد 23 وكالة منها في بكين، و12 في شنغهاي (المجموع 35). أما في الولايات المتحدة فتوجد منها 14 في نيويورك، و7 في بوسطن، و6 في منطقة خليج سان فرانسيسكو (بمجموع 27).
تقدُّم سريع
في بكّين أوّل «حديقة» عالية التقنية في الصين تسمّى «حديقة جونغوانكون للعلم»، وتضمّ عشرات الجامعات، بما في ذلك جامعة تسينغهوا، والعديد من المؤسسات البحثية التابعة للأكاديمية الصينية للعلوم، وحوالي 300 مركز للبحث والتطوير. ووفقاً للإحصاءات الرسمية، بلغ عدد موظفي البحث والتطوير (R&D) في بكين العام الماضي 338 ألفاً، منهم 76 ألفاً يعملون في البحوث الأساسية. وتستمر المواهب العلمية في العاصمة بالارتفاع كمّاً ونوعاً.
تم الانتهاء هذا العام من إجمالي 29 مرفقاً علمياً كان قد خُطِّطَ لها ببناء مدينة «هواريو» العلمية خلال فترة الخطة الخمسية الثالثة عشرة (2016–2020)، وذلك بهدف العمل كمركز وطني للابتكار العلمي والتكنولوجي، بما في ذلك المختبرات الوطنية ومؤسسات البحث والتطوير الجديدة، وتم تحقيق العديد من الإنجازات عالية المستوى في مجالات: المعلومات الكوانتية، والذكاء الاصطناعي، و«البلوكتشين»، وعلوم الدماغ، وتحرير الجينات، والعلاج الخلوي.
بكّين تتفوّق على لندن بالابتكار
تجاوزت بكين لندن للمرة الأولى لتحتل المرتبة الثالثة عالمياً في مجال الابتكار، وفقاً لمؤشر «محور الابتكار العالَمي» Global Innovation Hub Index الصادر بشكل مشترك، في 19 كانون الأول 2022، عن مركز التنمية الصناعية والحَوكمة البيئية في مؤسسة أبحاثNature البريطانية وجامعة «تسينغوا» الصينية. كما احتلت منطقة خليج قوانغدونغ وهونغ كونغ وماكاو الكبرى وشانغهاي المرتبة 6 و10 على التوالي وفق المؤشّر نفسه.
وبشكل عام شهدت المدن في آسيا أداءً متميزاً في مؤسسات البحث العلمي والبنية التحتية العلمية، وهي تدفع مشهد الابتكار الدولي نحو التعددية القطبية والتنمية الخضراء منخفضة الكربون.
في الصين، كان أداء المدن الرئيسية للابتكار جيداً، ويتجلى ذلك في حقيقة أنّ 5 منها قد تم إدراجها ضمن أفضل 20 مدينة من حيث البنية التحتية العلمية ومؤسسات البحث، بينما تحتل بكين المرتبة الأولى عالمياً في البنية التحتية العلمية.
ولا يتوقف الأمر على تمتّع بكين بمرتبة المدينة الأولى على مستوى العالم في إنتاج البحوث العلمية وفقاً لمؤشر Nature، بل وإنّ مدينة شنغهاي الصينية أيضاً تلحق بالركب بسرعة؛ حيث تفوّقت على منطقة بوسطن الحضرية ومنطقة خليج سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، لتحتل شنغهاي المركز الثالث بين مدن العلوم لعام 2022.
ووجدت دراسة استقصائية أجرتها Springer Nature ومعهد شنغهاي للعلوم عام 2021 أنّ شنغهاي كانت المدينة الأكثر جاذبية في الصين من بين 654 عالِماً شملهم الاستطلاع على مستوى العالم. وأظهرت أيضاً أنّ معدل النمو بين العلماء الشباب في شنغهاي كان سادس أعلى معدّل في العالم، حيث ارتفع عامل التأثير لأوراقهم البحثية بنسبة 304.4% بين عامَي 2019 و2021.
وطنٌ يستعيد عقوله ويرعاها
في عام 2018، بعد قضاء ثلاث سنوات في فرنسا وسنتين في الولايات المتحدة لإجراء أبحاث ما بعد الدكتوراه، قرّر وانغ رونغ العودة إلى الصين. وقال وانغ، الذي حصل على درجة الدكتوراه في العلوم البيئية والفيزياء من جامعة بكين في عام 2013: «كنت أعلم أنني على وشك الوصول إلى المرحلة الأكثر إبداعاً في مسيرتي البحثية، وأردت أن أقضي أكثر سنواتي إنتاجية في بلدي الأم». وأضاف وانغ: «لقد نشأتُ وتعلمت في الصين، لذلك اعتقدت أنّ الوقت قد حان لردّ المعروف لبلادي». وفي غضون أيام من اتخاذ قراره هذا، عرضت جامعة فودان على وانغ مباشرةً منصباً بحثياً في «مختبر شنغهاي الرئيسي لمنع تلوث الجسيمات في الغلاف الجوي». وتم تضمينه لاحقاً أيضاً في برنامج المواهب حيث تم تقديم منحة بحثية له بقيمة مليوني يوان (286,600 دولار). وقال وانغ: «تؤمّن لي المنحة استقلاليةً كاملة في اختيار موضوعات البحث، والتي لها ميزة كبيرة عندما يتعلق الأمر بالبحث الأساسي».
كانت عودته إلى الصين مجزية؛ يقود وانغ الآن فريقاً من أربعة طلاب دكتوراه وستة خريجين وأربعة طلاب جامعيين. في غضون أربع سنوات، نشر أيضاً ثمانية أبحاث رئيسية في مجلّات علمية دولية شهيرة مثل Nature وJoule وTheInnovation وPNAS (وقائع الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم).
من الجهود التي بذلتها شنغهاي إنشاء برامج منذ العام 2015 لدعم العلماء الشباب. على سبيل المثال، استفاد من برنامج «النجم الصاعد» أكثر من 3000 عامل علمي شاب موهوب، وفقاً للجنة العلوم والتكنولوجيا في المدينة. وفي السنوات الأخيرة تضاعف عدد الأشخاص الذين يشملهم البرنامج، وكذلك التمويل الذي يتلقاه كلّ شخص. في الوقت نفسه، اجتذب «برنامج بوجيان للمواهب» أكثر من 4400 من الموهوبين من الخارج.
وقال وانغ إنّ هذه البرامج جذّابة للغاية للمواهب الشابة، لأنها لا توفر التمويل فحسب، بل تبني أيضاً تعاوناً متعدد التخصصات ومنصّات تعاون بين الصناعة والجامعة والبحوث التي تعزز بشكل كبير المساعي البحثية.
يمنح البرنامج أيضاً الباحثين استقلالية كاملة في اختيار موضوعات البحث، وكيف يريدون إجراء البحث، والطريقة التي يستخدمون بها التمويل.
وفقاً للخطة الخمسية الرابعة عشرة لمدينة شنغهاي (2021–2025) التي أقرها الحزب الشيوعي الصيني، تهدف المدينة إلى تخصيص 4.5% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث والتطوير. وسيشكل البحث الأساسي 12% من إجمالي ميزانية البحث والتطوير للمدينة خلال هذه الفترة.
الدعم والتخطيط الحكومي
ليس من المستغرب أن نرى بكين وشنغهاي ضمن أفضل المدن في العالم، بالنظر إلى التزام الحكومة المركزية بمتابعة التنمية المدفوعة بالابتكار. حيث يرجع النمو السريع للعلوم والتكنولوجيا في المدينتين إلى حد كبير إلى الدعم من الحكومات المركزية والمحلية، الأمر الذي اعترف به مؤشر مجلة Nature البريطانية. وأدى الاستثمار الكبير في البحث العلمي إلى تحسين التعاون الدولي وجذب العديد من المهنيين الموهوبين.
يقرر الطلاب الصينيون الذين يدرسون في الخارج الآن بشكل متزايد العودة إلى الصين. وفقاً للبيانات الرسمية، ارتفعت نسبة الطلاب الصينيين العائدين إلى الوطن من إجمالي عدد الطلاب الذين يدرسون في الخارج من 55% عام 2011 إلى ما يقرب من 80% عام 2016.
قال شيويه لان، الأستاذ في جامعة تسينغهوا، إنّ بناء مركز الصين الدولي للابتكار العلمي والتكنولوجي يجري تسريع مساره، وتعدّ بكين ومنطقة خليج قوانغدونغ وهونغ كونغ وماكاو الكبرى وشنغهاي من بين أفضل 10 مراكز للابتكار العلمي والتكنولوجي في العالَم. كما تم إدراج ما مجموعه 19 مدينة صينية في أفضل 100 مركز من هذا النوع على المستوى العالَمي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1103