هل يؤدّي التطعيم الإلزامي إلى نتائج أفضل من الطَّوعي؟
خلال السنة الثالثة من وباء كوفيد (2021) أخذ يتصاعد في خطاب صانعي السياسات وخاصة في الغرب، الحديث عن «ضرورة» التطعيم الإلزامي ضدّ الفيروس، مترافقاً بإجراءات عَملية بهذا الاتجاه، أثارتْ وما تزال جدالاً أخلاقياً وقانونياً وسياسياً، وعلمياً أيضاً، مثل فرض «شهادة التطعيم» للسماح بالسفر، لينتقل الأمر بالتوازي أو بعده قليلاً إلى التطعيم شرطاً لدخول بعض الأماكن والنشاطات أو المؤسسات الرسمية والتعليمية... ويبدو أنّ هذه المساعي لاقت مؤخراً فرصة مؤاتية جديدة بعد اكتشاف المتحور الجديد «أوميكرون» والمخاوف المثارة حوله. وقد يبدو أنّ للسؤال المطروح في عنوان هذه المادة جواباً بسيطاً، لكن مهمّة العِلم هي كشف الجوهر المختفي خلف البساطة الظاهرة، وعبر الأدلة والبيّنات.
ما هو «التطعيم الإلزامي»؟
أصدرت منظمة الصحة العالمية في 13 نيسان 2021 وثيقة بعنوان «كوفيد-19 والتطعيم الإلزامي: الاعتبارات والمحاذير الأخلاقية. ملخَّص سياسات» ورد فيها بأنّ: «الأشكال المعاصرة من التطعيم الإلزامي/الإجباري mandatory vaccination تفرِضُ التطعيمَ عن طريق التهديدات المباشرة أو غير المباشرة بفرض قيود في حالات عدم الامتثال. وعادةً ما تسمح سياسات التطعيم الإلزامي بعدد محدود من الاستثناءات المعترف بها من قبل السلطات الشرعية (على سبيل المثال، الموانع الطبية)». بعد ذلك تعتبر وثيقة الصحة العالمية (من وجهة نظرها) أنّ «التطعيم الإلزامي» ليس «تطعيماً قسرياً» compulsory على أساس أنه «لا يتم استخدام القوة أو التهديد بعقوبة جنائية في حالات عدم الامتثال له». لكنّها تقرّ بأنّه «مع ذلك، فإن سياسات التطعيم الإلزامي تحدُّ من الاختيار الفردي بطرق غير قليلة من خلال جعل التطعيم شرطاً، مثلاً للذهاب إلى المدرسة أو العمل في صناعات أو أماكن معينة». ويبدو موقف الصحة العالمية ملتبساً أو حمّال أوجه وغير حاسم تجاه إلزامية لقاحات كورونا الحالية من عدمها، فنقرأ في الوثيقة نفسها عبارات تبدو متناقضة، فمرّة تقول «لا تقدّم هذه الوثيقة موقفاً يؤيد أو يعارض التطعيم الإلزامي لكوفيد-19»، ومرّة ثانية تقول «يجب ملاحظة أن منظمة الصحة العالمية لا تدعم حالياً اتجاه إلزامية التطعيم ضد فيروس كورونا كوفيد-19، بعد أن جادلت بأنه من الأفضل العمل على الحملات الإعلامية وصنع لقاحات يمكن الوصول إليها. بالإضافة إلى ذلك، أصدرت منظمة الصحة العالمية مؤخراً بياناً مفاده أنّ السلطات الوطنية ومشغّلي وسائل النقل يجب ألّا يطلبوا التطعيم ضد كوفيد-19 كشرط للسفر الدولي»، ومرّة ثالثة تقول «ليس من غير المألوف أنْ تفرض الحكومات والمؤسسات إجراءات أو أنواعاً معينة من السلوك من أجل حماية رفاهية الأفراد أو المجتمعات. ويمكن أن تكون مثل هذه السياسات مبررة أخلاقياً، لأنها قد تكون حاسمة لحماية صحة ورفاهية الجمهور».
وبكلّ الأحوال ما يهمّنا في هذا المقال، هو: هل هناك أدلّة علمية على أنّ سياسات «التطعيم الإلزامي»، وفق التجارب العلمية التاريخية السابقة والحديثة، أدّت إلى زيادة «حماية صحة ورفاهية الجمهور» أكثر من سياسات «التطعيم الطوعي»؟
دراسة من الصين
في بحثٍ في المجلة العالمية «طوارئ الصحة العامة» (الناشر إلسيفيير)، بعنوان «التفضيلات الفردية للتطعيم ضد كوفيد-19 في الصين» قام الباحثون بإجراء تجربة عبر ست مقاطعات صينية اختيرت عشوائياً، وقالت نتيجتها: «وجدنا احتمالية أكبر للتطعيم عندما يكون اللقاح أكثر فعالية، وذا نسبة صغيرة للآثار الجانبية الخطيرة، وعندما تكون التطعيمات مجانية وطوعية، وذات عدد أقل من الجرعات، وذات مدة أطول بالحماية، وكلما ارتفعت نسبة معارف الذين تم تطعيمهم».
ولأخذ لمحة عن سياسات التطعيم ضد كوفيد في الصين، والتي نجحت حتى الأسبوع الماضي بتطعيم كامل لأكثر من 82% من سكانها، نقتبس من مجلّة «فورتشن» الأمريكية (التي تصنَّف مشابهةً لفوربس وبلومبرغ) حيث أقرّت المجلة في تقريرٍ لها في 27 أيار 2021 بما يلي: «لقد تجنَّبت الحكومة الصينية حتى الآن سياسات التطعيم الإلزامي، لكنها دعت عشرات الملايين من الأشخاص الذين يعملون في الشركات التي تديرها الدولة، بالإضافة إلى أعضاء الحزب الشيوعي الصيني البالغ عددهم 90 مليوناً، إلى أن يكونوا قدوةً في حملة اللقاح... تقول السلطات في شنغهاي إنها ترسل فرق التطعيم إلى مكاتب موظّفي الياقات البيضاء لتشجيع التطعيم، بينما ترسل مدنٌ مثل شنتشن عياداتِ تطعيم متنقلة إلى المجمّعات السكنية... وأفاد مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في الصين أنّ السلطات تقدِّم هدايا مجّانية مثل علب البَيض ومنظفات الغسيل وأكياس الأرز وورق التواليت لأولئك الذين يتم تطعيمهم. حتى أنّ حكومة مقاطعة سيتشوان أنتجت أغنية راب بعنوان (تلقّح بسرعة) لتشجيع الناس على أخذ الجرعات».
فضلاً عن ذلك، لا شكّ بأنّ هناك عاملاً مهمّاً يتعلق بمدى ثقة الشعوب بحكوماتها، وبالتالي بسياساتها العامة ومن ضمنها الصحّية، فلا يمكن أن تستوي حكومةٌ انتشلت الملايين من الفقر وتدفع بلادها قدماً للازدهار والعدالة الاجتماعية مع حكومات تهوي بمواطنيها من أزمة إلى أخرى، وترجّح مصالح الشركات والأرباح على حساب صحّتهم، بدءاً من الحكومة الأمريكية إلى أصغر حكومة رأسمالية فاسدة في العالم.
دراسة على البلطيق واسكندنافيا
قبل عدة سنوات من جائحة كوفيد-19، قام مشروع ASSET البحثي المتخصص بالجوائح والأوبئة والممول من الاتحاد الأوروبي، بدراسة بعنوان «التطعيم الإلزامي ومعدلات التمنيع في أوروبا»، وقامت بجمع بيانات (بعضها يمتد من 2007 إلى 2013) من بلدان أوروبية غربية وشرقية (الدنمارك والنرويج والسويد والنمسا ورومانيا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا) وبمقارنة الاختلاف بين هذه الدول من حيث اعتماد سياسات تطعيم بعضها إلزامياً وبعضها الآخر طوعي للقاحات مثل شلل الأطفال والحصبة والسعال الديكي. وخلصت الدراسة إلى النتيجة التالية: «البلدان التي يكون فيها التطعيم إلزامياً لا تصل عادةً إلى تغطية أفضل من الدول المجاورة أو البلدان المماثلة التي لا يوجد فيها إلزام قانوني بالتطعيم».
الإجراءات القسرية و«فيروس الفساد»
انتشرت منذ أيام قصة تلقّي مواطن من نيوزيلندا 10 جرعات من لقاح كورونا في يوم واحد، بعد أن دفع له أشخاص مالاً لأخذ التطعيم بدلاً منهم لكي يحصلوا على «تصريح صحي» يسمح لهم بالدخول إلى بعض الأماكن، بسبب أحد أشكال «التطعيم الإلزامي» الذي فرضته السلطات النيوزيلندية. ونتساءل هنا: في بلاد استشرى فيها الفساد والتجويع لدرجةٍ جعلت الناس تبيع أعضاءها، هل سيمنع التطعيمُ الإلزامي تزويرَ شهادات التطعيم (كما سبق تزوير نتائج اختبارات الفيروس)؟ أليس من العدل والأولوية القصوى في زمن الوباء قبل فرض «التطعيم الإلزامي» أن يتم مثلاً فرض إجراءات إلزامية تمنع تجّار الغذاء من تجويع الناس وتحطيم مناعتهم الطبيعية أمام كورونا وغيره، ومنع تجار الأوكسجين من خنق المرضى، ومنع تجّار الدواء والطبابة من ابتزازهم بأسعار العلاج؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1049