«الميتافيرس»: بين تَسليع جهازنا العصبي وإمكانات ما بعد الرأسمالية

«الميتافيرس»: بين تَسليع جهازنا العصبي وإمكانات ما بعد الرأسمالية

في مقطع الفيديو الشهير الذي أطلقته شركة «ميتا» (فيسبوك سابقاً) في 29 تشرين الأول 2021 يظهر مالكها مارك زوكيربيرغ «ليبشّر» في مادة دعائية لنحو عشر دقائق لما يفترض أن تكون التكنولوجيا القادمة التي سوف تتجاوز كلّاً من الإنترنت و«الموبايل» والحاسوب. وتعتمد على بناء شبكة من فضاءات ما يسمى «الواقع الافتراضي» VR و«الواقع المُعزَّز» AR. تضيء المادة التالية على الموضوع من وجهة نظر بعض العلوم: علم وظائف الأعضاء البشرية (الفيزيولوجيا) وأمراضها، علم الهندسة البشرية (الإيرغونوميكس)، وعلم الاقتصاد السياسي الماركسي.

وفقاً للدعاية، لن تحتاج للانتقال جسدياً للذهاب إلى العمل أو الترفيه، فيمكنك لبس «البيجاما» والبقاء في البيت، بينما تبعث عوضاً عنك «شخصيتك الصُّوَرية» أو «الأفاتار» الذي ينوب عنك. تلبسه بدلة رسمية أو رياضية أو ما يوافق المناسبة التي ستحضرها مع «أفاتارات» أشخاص آخرين قد يكونون أصدقاءك أو زملاءك أو غيرهم، وتتفاعل معهم ضمن الحدث. كما يمكن استعمال العملات المشفرة في هذا العالم الافتراضي.

أصل كلمة «ميتافيرس»

كلمة ميتافيرس Metaverse منحوتة من مقطعين: البادئة اللاتينية «ميتا» Meta التي تعني «ما وراء» أو «ما بعد» مثل تلك الداخلة في كلمات من قبيل «ميتافيزياء» مثلاً، وكلمة «فيرس» verse التي تعني «كون». وبالتالي، المعنى الحرفي «ما وراء الكون»، ويراد بها الإيحاء بعالَم افتراضي ما وراء العالَم الحقيقي، أو المألوف لدينا. ويقال بأن أول من صاغ المصطلح هو روائي الخيال العلمي نيل ستيفنسون في روايته «Snow Crash» عام 1992 لوصف العالم الافتراضي الذي يمارس فيه بطل الرواية تواصله الاجتماعي والتجارة، وحتى قتال أعدائه الموجودين في العالم الحقيقي من خلال صورته الافتراضية «الأفاتار».

ثلاثة مفاهيم لتعريف «الميتافيرس»

رغم دعاية زوكيربيرغ، ما زال «الميتافيرس» مجرد تصوّر قليل النضج، لكن شركات التكنولوجيا وعلى رأسها ميتا/ فيسبوك تهدف إلى بنائه كـ«فضاء» للعديد من الأنشطة عبر الإنترنت، للعمل واللعب والدراسة والتسوق.
ويقول مطّلعون على الأبحاث النظرية والعملية الخاصة به: إنّ هناك ثلاثة جوانب رئيسية للميتافيرس: «الحضور عن بعد» telepresence و«قابلية التشغيل البيني (أو المتبادَل)» interoperability و«التوحيد القياسي» standardization.

1– «الحضور» والانغماس في «الواقع» الافتراضي

«الحضور عن بعد»: أو باختصار «الحضور»، هو الشعور كأنك في الواقع رغم كونك في مساحة افتراضية. وهناك مؤسسات أبحاث تنتج أوراق بحث علمي عن هذا الموضوع تتناول عدة علوم فيزيولوجية ونفسية واجتماعية، فهناك ما يسمى «الجمعية الدولية لأبحاث الحضور» (ISPR) منذ العام 2009، ويقولون: إنّ عقوداً من أبحاثهم أظهرت أنّ هذا الإحساس «بالحضور» الجسدي يُحسّن جودة التفاعلات عبر الإنترنت، ويتحقق من خلال تقنيات «الواقع الافتراضي» Virtual Reality مثل: شاشات العرض المثبتة على الرأس. الملفت للانتباه في التعريف التفصيلي لهذا المفهوم على موقع الجمعية، اعترافه بأنّه لا بدّ من درجة ما من خداع حواس البشر أو تعديل وعيهم عبر «الانغماس» immersion للشخص الذي يمر بتجربة «الواقع الافتراضي» سواء انغماساً كلياً أو جزئياً. وكلّما فشلت حواسك وإدراكاتك بالتفريق بين الواقع الحقيقي والافتراضي، يصنّف ذلك بأنّه درجة أعلى من «الانغماس».

2– «التشغيل البيني»

هو التنقل بسلاسة بين الفضاءات الافتراضية باستخدام الصور الرمزية (الأفاتار) والعناصر الرقمية. وهناك شركات وأدوات تتيح للأشخاص إنشاء صورة رمزية يمكنهم استخدامها في مئات من العوالم الافتراضية المختلفة، كما في اجتماعات Zoom مثلاً، وهناك خطط لتسهيل نقل السلع الرقمية والعملات المشفرة عبر الحدود الافتراضية.

3– «التوحيد القياسي»

هناك منظمات دولية مثل Open Metaverse Interoperability Group ستضع معايير قياسية للتشغيل البيني للمنصات والخدمات عبر الميتافيرس.

العواقب الصحية لـ«الواقع الافتراضي» VR

نشرت إحدى الدراسات العلمية الطبية عن أضرار استخدام تقنيات الواقع الافتراضي، العام الماضي 2020 في مجلة «رسائل العلوم العصبية» العالَمية، وتقول خلاصتها: يرتبط استخدام الواقع الافتراضي بالعديد من الآثار الضارة بما فيها الدوخة والصداع ودوار الحركة. وتسبب ألعاب الواقع الافتراضي- ذات الانغماس الكامل- تغييرات سلبية في التوازن السكوني، وخاصة مع رسومات متحركة في خلفية اللعبة.

«الإيرغونوميكس» والعواقب الصحية للعمل «عن بُعد»

يدرس علم الإيرغونوميكس، أو الهندسة البشرية للعمل، النواحي الفيزيائية والنفسية لتصميم بيئة العمل، والعلاقة بين العامل والآلة، لتسير عملية العمل بكفاءة وأمان.
تناولت دراسة صادرة عام 2014 بشكل مشترك عن جامعتين إحداهما: سويدية (مختصة بأبحاث الجهاز العضلي الهيكلي) والأخرى: أسترالية (مختصة بالعلاج الفيزيائي والطبيعي) مشكلة الانزياح الحاصل في التناسب بين كميات العمل العضلي والذهني لدى القوى العاملة، والذي أدى إلى «انخفاض أعباء العمل الجسدي لكثير من العمال بسبب تغير نسب القوى العاملة في المهن غير المستقرة، والتطورات التكنولوجية في المهن التي كانت تتطلب جهدًا بدنيًا تقليديًا». وقد يُظَنّ للوهلة الأولى أنّ التطور التكنولوجي لتسهيل وتخفيف الجهد العضلي المبذول لأداء العمل نفسه أمرٌ إيجابيّ دائماً، لكن الدراسة تلاحظ العواقب السلبية على الصحة الناتجة عن «الإجهاد البدني غير الكافي الذي له آثار ضارة قصيرة وطويلة المدى على الصحة والقدرة البدنية. والعديد من العمال المعاصرين معرضون لخطر عدم كفاية عبء العمل البدني». وتقترح الدراسة «حاجةً إلى نموذج جديد للعمل» يراعي النظر إليه على أنه «ساحة لتحسين الصحة البدنية والقدرة».
فإذا تمت المبالغة بتعميم نموذج «العمل عن بعد» أو لم يترافق مع تقصير يوم عمل العمال، بما يتيح لهم ممارسة الرياضة، فإنّ تكنولوجيا «الميتافيرس» التي يبشّرنا به زوكيربيرغ ستؤدي في ظلّ علاقات الإنتاج الرأسمالي الاستغلالية والمستنزفة للعمّال إلى تفاقم المشكلات الصحية القائمة سلفاً؛ كزيادة أمراض، كالديسك الرقبي والقطني الناجمة عن العمل المكتبي وشاشات الكمبيوتر، فضلاً عن البدانة ونقص اللياقة، وخاصة أنّ نمط الاستغلال الرأسمالي لا يتيح لمعظم العمال وقتاً كافياً ولا أجراً كافياً لممارسة الرياضة.

«الطعام الافتراضي» وتسليع «الحواس»!

من أكثر تطبيقات الواقع الافتراضي غرابةً دخولُها في صناعة الطعام والشراب، فهناك مثلاً: شركة في لوس أنجلوس الأمريكية تسمى Project Nourished تستخدم التكنولوجيا المتقدمة لإنشاء تجربة «تناول الطعام» عن طريق «قرصنة» حواس الرؤية والذوق والشم واللمس عند الإنسان في خداع صريح لحواس الناس، للاعتقاد بأن الطعام «الزائف» الذي يتناولونه هو وجبة شهية! وتعمل تكنولوجيا بيع الأوهام هذه من خلال دمج «مُوزِّعٍ عطري» للرائحة، وسماعة «واقع افتراضي» VR، ومحول توصيل أصوات مضغ اصطناعية عبر عظام الفك (تحاكي أصوات المضغ التي تنتقل من الفم إلى طبلة الأذن عبر الأنسجة الرخوة والعظام)، وأداة «جيروسكوبية» وطباعة ثلاثية الأبعاد لطعام زائف لا طعم له أصلاً وخالٍ من الحريرات.

نحو تحرير القيم الاستعمالية من سجن التسليع

يعرّف ماركس البضاعة في الفصل الأول من «رأس المال» بأنها: «في المقام الأول، موضوعٌ خارجي، شيءٌ يلبي، بخصائصه، حاجات بشرية من هذا النوع أو ذاك، ولا تغير طبيعة هذه الحاجات من الأمر شيئاً سواء صدرت عن المعدة أم عن الخيال». هذا المفهوم يمثل جانب «القيمة الاستعمالية» من البضاعة.
في عصر المعلومات تزايدت الحاجات البشرية الصادرة «عن الخيال» حتى لو كانت «مصطنعة» فرضتها علينا الرأسمالية، ولكن في عصر سيادة الرأسمالية كلّ منتوج جديد بما فيها تكنولوجيات التواصل السمعي البصري والرقمي، منذ عصر الغراموفون والراديو ثم التلفزيون وصولاً للإنترنت والهاتف المحمول، إنما يُصنع كـ(قيمة تبادلية) أيضاً بغرض الربح ومراكمة وتوسع رأس المال بالدرجة الأولى وليس فقط من أجل منفعته كـ «قيمة استعمالية».
هذه الحقيقة العلمية ستنطبق أيضاً على أيّة منتوجات رقمية ومعلوماتية جديدة يتم تسليعها بتكنولوجيا «الميتافيرس» الذي «يبشّروننا» إذا استمرت الرأسمالية بالتحكم بالتكنولوجيا وبالبشر واستعبادهم. وسننتقل إلى دركٍ أكثر تدنيّاً من اشتداد الصنمية البضاعية واغتراب الإنسان عن إنسانيته، كما شخّصها ماركس، وستزيد معاناة العامل الذي لا يجد في عمله إشباعاً إنسانياً لأنّه «ينحَطٌّ روحياً وجسدياً إلى دَرَك آلة، ويتحوّل من كونه إنساناً إلى نشاطٍ مجرّد ومَعِدَة». أما عندما ينجح العمّال بتغيير ثوري لعلاقات الإنتاج الرأسمالية وبناء المجتمع الاشتراكي الجديد، ويرثون التكنولوجيا الحالية، بما فيها «الميتافيرس» سيقرّرون عندها ماذا يفعلون بها، وما إذا كان ممكناً الاستفادة منها إنسانياً، أو تعديلها بلا أضرار في عالم حرّ من الاستغلال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1043
آخر تعديل على الإثنين, 08 تشرين2/نوفمبر 2021 00:20