«الدماغ ليس عضواً بيولوجياً»  مقابلة مع البروفسور كونستانتين أنوخين
كونستانتين أنوخين كونستانتين أنوخين

«الدماغ ليس عضواً بيولوجياً» مقابلة مع البروفسور كونستانتين أنوخين

أجرت صحيفة الشبيبة الشيوعية في موسكو (موسكوفيسكي كومسموليتس) مقابلة، في 6 تموز 2021، مع عالم البيولوجيا العصبية البروفسور كونستانتين أنوخين، حول المستجدات العلمية في فهم الوعي والذاكرة وعمل الدماغ. أنوخين هو عضو الأكاديمية الروسية للعلوم، مدير معهد الأبحاث المتقدمة للدماغ، جامعة لومونوسوف موسكو الحكومية، ورئيس مختبر البيولوجيا العصبية للذاكرة في معهد أبحاث علم وظائف الأعضاء الطبيعي، وقد كرّس أكثر من 30 عاماً لدراسة آليات الذاكرة والوعي– حاورته ناتاليا فيدينيفا، رئيسة تحرير القسم العلمي في الصحيفة المذكورة. وفيما يلي تعريب تلخيصي لأبرز ما ورد في هذه المقابلة.

تعريب وإعداد: قاسيون

كونستانتين فلاديميروفيتش، لقد حاول كثيرون عبر قرون عديدة فهم الوعي أو الروح... أنت تقوم بتشريح هذه المفاهيم بطريقتك الخاصة، من وجهة نظر بيولوجية عصبية بحتة. فما الذي تعتقد أنه السر الذي يختفي وراءها؟

أولاً بالنسبة لـ«الروح»، هذا المفهوم له معنيان: المعتقدات الدينية تعتبره جوهراً خالداً غير مادي؛ بعضها يعتبر جميع الأجسام حتى الجماد تملك روحاً، وأخرى تقصرها على الأحياء، وثالثة على الحيوانات فقط دون النباتات، ورابعة، تقول: الروح لدى الإنسان فقط وخالدة... أما المعنى الثاني، العلمي فيتوافق فيه مفهوم الروح بمعنى ما مع مفهوم «أنا» الإنسان، معرفتها، شخصية الشخص، وهذا برأيي أهم الأشياء التي يمكن لعلم الدماغ أن يثري البشرية به. فيما يخص الدماغ، لقد قلتِ: إننا ندرسه حصرياً من وجهة نظر عصبية بيولوجية، ومع أنّ هذا القول يبدو علمياً جداً، لكن هذا خطأ جوهري، فالدماغ في الحقيقة ليس عضواً بيولوجياً... مهما بدا هذا الكلام غريباً أو مفارقةً أو تناقضاً. ولكن من خلال فهم معنى هذا الحكم يكمن الطريق لمعرفة الطبيعة الحقيقية للروح والوعي.

إذا لم يكن الدماغ عضواً بيولوجياً، فما هو إذاً؟

الدماغ عضو يخضع للقوانين البيولوجية، لكن جوهره الحقيقي لا يكمن في ذلك على الإطلاق. في الواقع، الدماغ هو عضو إدراكي، أي عضو عقلي. وهذا بالفعل شكل مختلف تماماً من تنظيم المادة، لفهمه يحتاج المرء إلى مبادئ لم يتم تدريسها لعالم الأحياء. لكن الصعوبة تكمن في عدم تعليمهم لطبيب نفساني أيضاً. يقدم علم الأعصاب الحديث لهذا الاختصاصي وعاءً لا يوجد فيه مكانٌ مناسب لتوضع فيه قوانين النفس. في فلسفة العقل، يُطلق على هذا الموقف مصطلح «الفجوة التفسيرية». أما كيف يمكننا التغلب على هذه الفجوة؟ لقد كرست أبحاثي في ​​السنوات الأخيرة لحل هذه المشكلة بالذات: سد الفجوة بين النفس والدماغ، ورفع مبادئ بنية وعمل الدماغ من المستوى التشريحي والفيزيولوجي البحت إلى مستوى معرفي أعلى. إن مفهوم «الورم المعرفي» (كوغنيتوما cognitoma) الذي اقترحتُه لالتقاط هذا الجوهر الرفيع المستوى للدماغ، بالإضافة إلى نظرية جديدة للدماغ «نظرية الشبكات العصبية الفائقة» neural hypernets، يهدفان بالكامل إلى هذه الغاية.

حدثنا عن نظريتك (التشبيك الفائق للدماغ)

نظرية الشبكات العصبية التي طوَّرتُها (نظرية الشبكات الفائقة للدماغ) هي محاولة لرؤية مثل هذه البنية التي تُوحِّد الخلايا العصبية الفرادى. باختصار، تصف أيّ دماغ بأنه شبكة عصبية فائقة تكون فيها العقد بدورها شبكات فرعية عصبية، مجموعات من الخلايا العصبية منتشرة في جميع أنحاء الدماغ، ولكنها متصلة بنشاط مشترك. من الناحية النظرية، تسمى هذه المجموعات بالـ «مجموعات المعرفية»، لأن كُلاً منها جزء لا يتجزأ من معرفتنا، وتجربتنا المعرفية، وهي ذرة من «أنا» لدينا تشكلت في سياق التطور الفردي. في مثل هذه المجموعات المعرفية، لا يتم تخزين كل آثار علاقاتنا مع العالم الخارجي فحسب، بل ومع العالم الداخلي، ومع المجموعات الأخرى في هذه الشبكة الفائقة. الروابط (المتصلة) بين المجموعات هي خلايا عصبية يتم تضمينها في الوقت نفسه في مجموعتين معرفيتين، وهذا يسمح لشبكتنا الفائقة بالحصول على ارتباط هائل ومعقد... وهذه الشبكة العصبية العملاقة تنمو في البداية بوتيرة هائلة في الطفولة، ولكنها تستمر بعد ذلك، حتى آخر لحظة في الحياة، ويتم تشكيل روابط جديدة، وتملأ شخصيتنا بالانطباعات والمعرفة والذكريات الجديدة. هذا وصف آخر للشبكة العصبية الفائقة، «الورم المعرفي» إنه كتلة ضخمة من الذاكرة.

هلّا حدّثتنا عن عملك حول دراسة آليات الذاكرة

ما أقلقتني حوالي العام 1985 هي كيفية دمج التجربة الذاتية في ذاكرتنا، وتخزينها لعقود، وغالباً طوال حياتنا. من الواضح أن الخلايا العصبية «تتذكر» بهذه الحالة. ولكن كيف تكون الخلية العصبية التي «رأت» سلحفاة لأول مرة في مرحلة الطفولة المبكرة قادرة على تخزين هذه الصورة حتى الشيخوخة؟ رغم أن جميع جزيئات هذه الخلايا مرّت بالعديد من دورات التجديد خلال هذا الوقت!
يمكنها تخزين آثار هذه التأثيرات بمساعدة الجينوم، الجزيئات المعلوماتية الكبيرة المخزنة في الخلية طوال الحياة. لكن لم يكن واضحاً أيّ الجينات تشارك بهذا، وقد كلّفت نفسي بمهمة العثور عليها. بعد الكثير من التجارب والخطأ، تمكنت أنا وزملائي من معهد علم الوراثة الجزيئية ومعهد البيولوجيا الجزيئية التابع لأكاديمية العلوم الروسية من العثور على مثل هذه الجينات. في ذلك الوقت كانت معروفة باسم «الجينات الورمية الأولية» cellular protooncogenes، وبعد ذلك بقليل حصلت على اسمها المستخدم الآن «الجينات المبكرة الفورية» immediate early genes. يتم تشغيل هذه الجينات في الخلايا العصبية لدماغ البالغين عندما يتذكرون معلومات جديدة. هذه إشارة للجينوم تقول له: «ما يحدث الآن مهم– تذكّر هذا!»، بغض النظر عن محتوى المعلومات، في خلية واحدة من القشرة، سيكون شكل سيارة لعبة هو ما جذب انتباه الطفل، وفي خلية أخرى، الصوت الذي أصدرته السيارة، وفي خلية ثالثة، حركات السيارة. ولكن في كل مرة تتذكر الخلايا العصبية شيئاً جديداً، تومض هذه الإشارة في نواتها، ويتم إطلاق العمليات في الجينوم الخاص بها، والتي تؤدي إلى تأجيل مسار الذاكرة. قمْ بمقاطعة هذا الرابط الدقيق، بتعطيل عمل جين واحد حرفياً، وسيفقد الدماغ القدرة على تذكر شيء ما لفترة طويلة.

كيف استطعتم تظهير العملية بشكلٍ مرئي؟

استخدمنا مجسّات جزيئية خاصة تكتشف تنشيط الجينات المبكرة الفورية في الخلايا العصبية للحيوان. من خلال انفجار نشاطها أثناء اكتساب تجربة جديدة، يمكن «تصوير» تتبع الذاكرة في الدماغ... ولكن كان من الضروري أيضاً تعلم «تحميض» مثل هذه الصور. فقمنا بتطوير تركيبات كيميائية خاصة تظهر دماغ الحيوان شفافاً تماماً، مع الحفاظ على «توهج» الخلايا العصبية المميزة بمسبار جزيئي. وأخيراً، بالتعاون مع علماء الفيزياء الآخرين، أنشأنا أدوات جديدة للفحص المجهري لمثل هذا الدماغ الشفاف، مما جعل من الممكن في النهاية الحصول على صورة ثلاثية الأبعاد لبصمة الذاكرة الخلوية.

بدراسة تكوين العقل الطبيعي، قد نتعلم كيفية تكوين عقل اصطناعي؟

نعم، لقد غذّى هذا المسار دائماً تطور الذكاء الاصطناعي. حالياً، يعمل فريق كبير من العلماء من جامعة موسكو الحكومية، ومعهد النشاط العصبي العالي وعلم وظائف الأعصاب التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ومعهد الرياضيات الحاسوبية الذي يحمل اسم مارشوك، على مشروع «الدماغ والمعلومات: من الذكاء الطبيعي إلى الاصطناعي». هدفه إنشاء طرق وأساليب جديدة لفهم ما هو العنصر الأساسي في الدماغ، ما هو الجزء الواحد من المعلومات المعرفية (البِت bit)، وتعلم كيفية قياس هذه البِتّات «المجموعات المعرفية».. وترجمة هذه المعرفة الذاتية إلى معادل كمّي. ولاتخاذ الخطوة الأساسية التالية في تطوير الذكاء الاصطناعي، ليس من الضروري على الإطلاق نسخ الذكاء البشري بادئ ذي بدء، نحن بحاجة إلى مبادئ عامة يكتسب بها أي دماغ معرفته الفردية، حتى ولو دماغ فأر. حتى الآن، لا يمتلك أي من أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً مثل هذه القدرات، حتى على مستوى الفأر.

أتساءل: ماذا يحدث بعد الموت؟

الشبكة العصبية الفائقة في الدماغ، هذا الهيكل، إذا لم يكن موجوداً، فلن يكون هناك مكان لتجري فيه العمليات العقلية. الوعي هو أحد هذه العمليات العقلية. إنه الريح التي تهب في شوارع مدينة العقل. من دون المدينة، في السهوب، لن تشكل الرياح تياراتها. تقول النظرية إنه عندما تنهار «المدينة» نختفي... بالنظر إلى ما يعرفه العلم عن الدماغ اليوم، فإنّ الأمر لا يستحق وضع خططٍ لما بعد الموت.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1028