عِلم «اللسانيّات العصبية»  يُثبِت نظرية «التعزيز التراكمي لاكتساب اللغة»

عِلم «اللسانيّات العصبية» يُثبِت نظرية «التعزيز التراكمي لاكتساب اللغة»

أثبتت دراسةٌ يابانية- أمريكية جديدة، نشرت في 31 آذار 2021، في تقارير مجلة «الطبيعة»، أنّ الأشخاص متعدِّدي اللغات يسهل عليهم اكتسابُ المزيد من اللغات الجديدة بعد إتقان ثانية أو ثالثة. وفضلاً عن إزالة الغموض عمّا يبدو «عبقرية خارقة» لدى متعددي اللغات، يقول الباحثون: إنّ نتائج تجربتهم توفّر أوّل دليل علمي عصبيّ على أنّ المهارات اللغوية تملك ميزة «الإضافة» (زيادة قدرة الفرد على تعلم لغات جديدة مع كل لغة يضيفها لحصيلة ما تعلّمه)، وهي نظرية تُعرف باسم «نموذج التعزيز التراكمي لاكتساب اللغة».

«لطالما كانت هناك فكرة تقليدية، تقول: إننا إذا استطعنا فهم الأشخاص «ثنائيّي اللغة»، يمكننا استخدام التفاصيل نفسها لفهم «متعدّدي اللغات». لقد تحققنا بدقة من هذا الاحتمال من خلال هذا البحث، ورأينا أن مهارات اكتساب اللغة لدى متعددي اللغات ليست مساوية لنظيرتها لدى ثنائيي اللغة، بل متفوقة عليها». هذا ما قاله الأستاذ. كونيوشي ل. ساكاي من جامعة طوكيو، وهو خبير في علم اللغة العصبيّ (اللسانيات العصبية) ومؤلف مشارك بالدراسة التي نُشرت مؤخراً في «التقارير العلمية» بمجلة «الطبيعة» nature. يتضمن هذا المشروع البحثي المشترك التعاون مع البروفيسورة سوزان فلين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهي متخصصة في اللغويات واكتساب اللغات المتعددة، وكانت من أوائل من اقترح «نموذج التحسين التراكمي».

التجربة

قام علماء الأعصاب الذي أعدّوا هذا البحث بقياس نشاط الدماغ لدى بالغين متطوعين: 21 منهم ثنائيّو اللغة (يعرفون لغتين) و28 منهم متعددو اللغات. وذلك أثناء تعرّفهم على الكلمات والجمل باللغة الكازاخستانية، وهي لغة جديدة تماماً بالنسبة لجميع هؤلاء المتطوعين.
كان جميع المشاركين متحدّثين أصليّين للّغة اليابانية، ولغتهم الثانية هي الإنكليزية. وبالنسبة للمشاركين متعددي اللغات، كانت اللغة الثالثة هي الإسبانية لدى معظمهم، وواحدة أو أكثر من اللغات الصينية أو الكورية أو الروسية أو الألمانية، لدى البقية، وكان يعرف بعضهم ما يصل إلى خمس لغات.
تتطلب الطلاقة في لغات متعددة إتقان الأصوات المختلفة والمفردات وتراكيب الجمل والقواعد النحوية. وعادة ما يتم تركيب الجمل باللغتين الإنكليزية والإسبانية بالاسم أو الفعل في بداية الجملة، لكن اليابانية والكازاخستانية تضعان الأسماء أو الأفعال في نهاية الجملة دائماً. كما وتتطلب قواعد الإنكليزية والإسبانية والكازاخستانية توافقاً بتصريف الفعل مع الفاعل (هو يمشي، هي تمشي)، لكن قواعد اللغة اليابانية لا تتطلب ذلك.
بدلاً من التدريبات النحوية أو مهارات المحادثة في الفصل الدراسي، قام الباحثون بمحاكاة بيئة تعلم لغة أكثر طبيعية، حيث كان على المتطوعين معرفة أساسيات لغة جديدة من خلال الاستماع فقط. استمع المتطوعون إلى تسجيلات للكلمات الكازاخستانية الفردية أو الجمل القصيرة، بما في ذلك تلك الكلمات أثناء مشاهدة شاشة فيها رموز موجب (+) أو سالب (-) للإشارة إلى ما إذا كانت الجملة صحيحة نحوياً أم لا. خضع المتطوعون لسلسلة من أربعة اختبارات استماع، تزداد صعوبةً أثناء قيام الباحثين بقياس نشاط أدمغة المتطوّعين باستخدام تقنية التصوير الطبي المعروفة باسم «التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي» fMRI.
وفي أبسط اختبار، كان على المتطوعين تحديد ما إذا كانوا يسمعون كلمة من جلسة التعلم السابقة، أم يسمعون نسخةً مختلفة نحويّاً من الكلمة نفسها. وفي مستويات الاختبار التالية، استمع المتطوعون إلى أمثلة الجمل وسُئلوا عمّا إذا كانت الجمل صحيحةً نحويّاً، وطُلِبَ منهم فكُّ تشفير تراكيب الجملة عن طريق تحديد أزواج (الفعل، الاسم).
وسُمِحَ للمتطوعين إعادةُ جلسة التعلُّم وتكرارُ الاختبار لعددٍ غير محدود من المرات، حتى يتمكنوا من التقدُّم إلى المستوى التالي من الصعوبة.

النتيجة

من أجل النجاح في اجتياز الاختبارات باللغة الكازاخستانية (الجديدة بالنسبة للجميع)، احتاج المشاركون متعدِّدو اللغات، الذين كانوا أكثرَ طلاقةً في لغتهم الثانية والثالثة، إلى جلسات تعلّمٍ متكررة أقلّ عدداً من تلك التي احتاجها أقرانُهم متعدّدو اللغات الأقلّ طلاقة.
كما أصبح المتحدِّثون متعدِّدو اللغات، الأكثر طلاقة، أسرعَ في اختيار الإجابة مع تقدُّمهم من المستوى الثالث إلى الرابع من الاختبار، وهي علامةٌ على زيادة الثقة، وعلى أنّ المعرفة المكتسبة خلال الاختبارات الأسهل قد تمّ نقلُها بنجاح إلى مستويات أعلى.

تعلُّمُ اللغات يُغيِّرُ الدماغ مادّياً

قال ساكاي: «في التعامل مع اللغة الكازاخية، كان نمط تنشيط الدماغ متشابهاً لدى كلٍّ من الأشخاص متعدّدي اللغات وثنائيّي اللغة، لكن الفرق بين الفئتين هو أنّ التنشيط كان أكثر حساسية وأسرع بكثير لدى متعدّدي اللغات».
يتناسب نمط تنشيط الدماغ لدى المتطوعين ثنائيّي اللغة ومتعدّدي اللغات مع معرفتنا الحالية للكيفية التي بواسطتها يقوم الدماغ بفهم اللغة، ألا وهي تحديداً: أنّ أجزاء «الفَصّ الجَبهي الأيسر» تصبح أكثرَ نشاطاً عند فهم محتوى الجملة ومعناها. وعند تعلم لغة ثانية، من الطبيعي أن تصبح المناطق المقابلة على الجانب الأيمن من الدماغ نشطة وتساعد في جهود الفهم.
لم يحدث لدى المتطوعين متعدّدي اللغات أيُّ تنشيطٍ للجانب الأيمن يمكن اكتشافه خلال مستوى اختبار قواعد اللغة الكازاخستانية الأولي البسيط، وبالمقابل، أظهر مَسح الدماغ (بالتصوير) نشاطاً قوياً في «مناطق دماغية مساعِدة» لدى المتطوِّعين ثنائيّي اللغة.
اكتشفَ الباحثون أيضاً اختلافاتٍ في منطقة «العقد القاعدية» basal ganglia، والتي غالباً ما تُعتبر منطقة أساسية أكثر في الدماغ. كان للعُقد القاعدية للمتطوعين ثنائيّي اللغة مستويات منخفضة من التنشيط، لكنها ارتفعت مع تقدمهم خلال الاختبار، ثم عادوا إلى مستوى منخفض في بداية الاختبار التالي. بدأ المتطوعون متعددو اللغات المستوى الأول للاختبار مع نشاط مماثل منخفض للعُقد القاعدية، ثم ارتفع وظلَّ مرتفعاً خلال مستويات الاختبار اللاحقة.
يقول فريق البحث المشترك (بين معهد MIT الأمريكي وجامعة طوكيو) إنّ هذا النمط من التنشيط في العقد القاعدية، يُظهِر أنّ الأشخاص متعدِّدي اللغات يمكنهم التعميم والبناء على المعرفة السابقة، بدلاً من التعامل مع كل قاعدة نحوية جديدة كفكرة منفصلة لفهمها من البداية (وبتعبير آخر: تزداد القدرة على «التجريد»، على الأقل في المجال اللغوي، لدى متعدّدي اللغات– ملاحظة المعرِّب).
توصَّلت دراساتٌ سابقة أجراها ساكاي وآخرون إلى جدولٍ زمنيٍّ من ثلاثة أطوار من التغييرات في تنشيط الدماغ أثناء تعلّم لغة جديدة: زيادة أولية، ثم هضبة عالية، ثم تَراجع إلى المستوى المنخفض نفسه من التنشيط المطلوب لفهم اللغة الأم.
تُقدّم هذه النتائج الجديدة تأكيداً على هذا النمط في تعدُّد اللغات، وتدعم إمكانية أنْ يكون التقدُّم الذي يُحرِزُه الشخص في خبرته التعلُّميّة اللغوية السابقة، يجعله قادراً على أن يكرّرها بشكلٍ أسهل فيما بعد [مع لغة جديدة]، مما يدعم نموذج التعزيز التراكمي لاكتساب اللغة.
قال ساكاي: «هذا تفسيرٌ عِلميّ عصبيّ للسبب في أنّ تعلُّمَ لغةٍ جديدة أخرى [ثالثة فما فوق] يكون أسهل من اكتساب اللغة الثانية. يمتلك ثنائيُّو اللغة نقطتَين مرجعيَّتين فقط، في حين يمكن لمتعددي اللغات استخدامُ معرفتهم بثلاث لغات أو أكثر في أدمغتهم، من أجل تعلُّمِ لغةٍ جديدةٍ إضافية».

العنوان الأصلي للدراسة: «عمليات تنشيط محسَّنة في المناطق ذات الصِّلة بالصياغة اللغوية لدى متعددي اللغات أثناء اكتساب لغة جديدة»، تأليف: كيتا أوميجيما، سوزان فلين، كونيوشي إل ساكاي.

Enhanced activations in syntax-related regions for multilinguals while acquiring a new language. Nature, Scientific Reports, April, 2021.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1015