ماذا يخبرنا فشل F-35 عن أمريكا ومجمّعها الصناعي- العسكري؟ (2)
نتابع في هذا الجزء الثاني والأخير من المادة، عرض أبرز العوامل المرتبطة سببياً بتعثّر المجمّع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية، وفشل أضخم مشاريعه المعاصرة (طائرة F-35). ونختم بتصوّر واستنتاج حول مصير الحروب الإمبريالية في المستقبل القريب أو المتوسط.
تأثير تمركز الاحتكارات الإمبريالية
يبدو أنّ «الحوافز الرأسمالية» للابتكار والإبداع تنخفض مع تناقص عدد الشركات المتنافسة، والتمركز الأعلى لرأس المال في احتكارات لا تنفكّ تقلّ عدداً، وتقلّ «رشاقةً» أيضاً.
في كانون الأول 2001 تقدم مجلس الشيوخ بطلب للبنتاغون لدراسة السؤال التالي: هل يمكن أن يؤدي تناقص عدد مورِّدي الطائرات العسكرية إلى تدهور الأمن القومي من خلال تقليل المنافسة والابتكار في الصناعة؟ وبناءً على ذلك أوكل إلى مؤسسة RAND مهمّة إجراء دراسات حول هذه المسألة. وبعد الدراسات نشرت المؤسسة خلاصة نتائجها في 29 تشرين الأول 2003. وتقول:
«وجد الباحثون أن المنافسة كانت جزءاً رئيسياً من النجاح التكنولوجي لصناعة الطائرات العسكرية الأمريكية على مدار القرن الماضي، حيث تم إجراء معظم الابتكارات من قِبل الشركات الأصغر التي كانت تعمل على اكتساب دور أكبر في هذه الصناعة... سيكون هناك قدر أقل من المنافسة والابتكار في صناعة الطائرات العسكرية الأمريكية، وسيغادر بعض المتخصصين ذوي المهارات العالية الصناعة على مدار السنوات العشر القادمة، ما لم تبدأ الدولة ببرامج تطوير إضافية للطائرات». ولاحظت هذه المؤسسة البحثية آنذاك ما يلي: «في عام 1960، كان هناك 11 متعاقداً أمريكياً قادراً على تصميم وبناء طائرات عسكرية تلبي احتياجات الأمة. انخفض العدد إلى 8 متعاقدين في عام 1990. واليوم، ونتيجة لعمليات الاندماج والتطورات الأخرى، فإن 3 شركات فقط– هي لوكهيد مارتن، وبوينغ، ونورثروب غرومان– قادرة على تطوير وإنتاج أنظمة طائرات عسكرية كبرى».
كما حذّر جون بيركلير آنذاك، وهو كبير محللي مؤسسة راند: «عندما يتطلع بعض المصنّعين إلى المستقبل، فإنهم لا يرون ما يكفي من الأعمال في الأفق للحفاظ على فِرَق التصميم الخاصة بهم في مكانها الصحيح... ما لم يتم القيام بشيء ما، فإن الممارسات التجارية تُملي عليهم إعادة تخصيص مواهبهم إلى مجالات أخرى. في الواقع: إنّ هذا بدأ يحدث بالفعل». كما حذّر من خطر خسارة أمريكا لجيل كامل من مهندسي التصميم: «بينما يتم تدريس الأساسيات في الفصل الدراسي النظري، لا يمكنك استبدال 20 إلى 30 عاماً من الخبرة... إذا سُمح بضياع هذه الكفاءات، فإن الطريقة الوحيدة لاستعادتها هي إنفاق الكثير من الوقت والمال في بناء وتدريب جيل جديد من المصممين».
بل وأكثر من ذلك، أشار تحليل المؤسسة آنذاك (2003) بالتحديد إلى مشروع F-35: «ازداد القلق بشأن القدرة المستقبلية لصناعة الطائرات العسكرية ثابتة الجناحين في الولايات المتحدة، بعد أن اختارت وزارة الدفاع شركة لوكهيد مارتن كمقاول رئيسي لتطوير وبناء مقاتلة جوينت سترايك فايتر إف-35»، منوّهةً ليس فقط إلى أن المشروع أوكِل إلى احتكارٍ رئيسي واحد، بل وأنه «برنامج الطائرات المقاتلة الجديد الوحيد الذي خطط له الجيش الأمريكي خلال الثلاثين عامًا القادمة»!
تأثير العولَمة النيوليبرالية
كتبت ميشيل ناش- هوف، إحدى المدافعات عن تطوير الصناعة والتكنولوجيا الأمريكية– مهندسة ومؤلفة عدة كتب حول الصناعة والتقانة– مقالاً مهماً ذا صلة بموضوعنا، في موقع «أسبوع الصناعة» في 22 تموز 2015 بعنوان «عَولَمة وزارة الدفاع لسلاسل التوريد تهدّد أمننا القومي».
واقتبست ناش-هوف عن ريتشارد ماكورماك، وهو ناشر ومنتج المطبوعة الأمريكية «أخبار التصنيع والتكنولوجيا» في عددها الصادر في 20 أيار 2015، أنّ البنتاغون دخل مرحلة جديدة من تطوره «تتميز بعَولمة سلاسل التوريد وعَجز مقاولي الدفاع والمختبرات الأمريكية عن قيادة التغيير التكنولوجي». وفي العدد نفسه نقل عن بيل لين، الرئيس التنفيذي لشركة Finmeccanica North America ونائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق من 2009 حتى 2011، تصريحاً مهماً أدلى به في اجتماع 29 نيسان 2015 لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، قال فيه: إن قطاع الدفاع والجيش الأمريكي «انتقل من كونه مُصدِّراً صافياً للتكنولوجيا إلى مستوردٍ صافٍ لها»، وأنّ «وزارة الدفاع تلحق ببطء بالتغيير الهيكلي الناجم عن عولمة التكنولوجيا وسلاسل التوريد». وأشار ماكورماك إلى أن «وزارة الدفاع والمقاولين الرئيسيين يعتمدون الآن على الشركات المصنعة الأجنبية للعديد من أنظمة الأسلحة الأكثر تقدمًا في الجيش... صناعتنا الدفاعية باتت مجرَّدَ ظِلٍّ لما كانت عليه سابقاً، حيث تمثل أقل من 3,5% من الاقتصاد الأمريكي، ومستمرة بالانخفاض مع انخفاض ميزانيات الدفاع إلى مستويات أدنى جديدة، وغياب فرصة تحقيق نمو أسرعٍ من نمو الاقتصاد».
وأضاف: «عندما يتم جمع ميزانيات البحث والتطوير R&D للشركات الخمس الأكبر في المقاولات الدفاعية، بوينغ Boeing ولوكهيد Lockheed ورايثون Raytheon وإل- ثري L3 ونورثروب Northrop والتي بالكاد تصل إلى مبلغ شحيح هو 3 مليارات دولار (أو 1,6% فقط من الإيرادات)، فإنّهم لن يجدوا لهم مكاناً حتى في قائمة أفضل 20 شركة عالمية تستثمر في البحث والتطوير».
في السابق كانت تسري أحكام متشددة نسبياً ضمن «قانون الشراء الأمريكي» Buy American Act منذ العام 1933 الذي كان يلزم الحكومة الأمريكية بمعاملة تفضيلية للصناعيين الأمريكيين عبر شرطين لا بد منهما: أن تكون البضاعة التي تشتريها الحكومة مصنَّعة داخل الولايات المتحدة، وتشكل المكونات المحلية أكثر من 50% من إجمالي تكلفتها. أما بعد نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج، تم تخفيف أحكام هذا القانون بحيث سُمِحَ لوزارة الدفاع والوكالات الحكومية الأخرى بشراء قطع غيار جاهزة من دول أجنبية، إذا استوفت الوظيفة والمواصفات العسكرية الصارمة نفسها.
في أوائل التسعينات، كانت معظم الأجزاء التجارية لا تزال تُصنع في الولايات المتحدة، مع بعض الاستعانة بمصادر خارجية من الفلبين وهونغ كونغ وسنغافورة، لذلك كان هذا التغيير ما يزال «آمنًا» من وجهة نظر الأمن القومي. أما لاحقاً فصار تصنيع معظم المكونات الإلكترونية التجارية والرقائق الدقيقة يتم في الصين. وقال نائب وزير الدفاع الأسبق، بيل لين: إن ما جرى في المشاركة الأجنبية بصناعة الدفاع يشبه ما حدث في قطاع السيارات الأمريكي.
ويبدو أنّ ناش-هوف، ترى «الحل» باسترجاع صناعة «قومية» أمريكية، عبر إجراءات حمائية وحماية سلاسل التوريد، مضيفة بأنهم كأمريكيين إذا لم يفعلوا ذلك «فإننا نهيئ أنفسنا لهزيمة نهائية على يد أعدائنا في المستقبل».
مصير «الرئة الحديدية»
مضت الكاتبة ناش-هوف في مقالها المذكور أعلاه، والعائد إلى العام 2015، أبعد من ذلك، لدرجة «رثاء» المجمّع الصناعي- العسكري الأمريكي، قائلةً: «عندما حذَّرَنا الرئيس أيزنهاور بشأن المجمَّع الصناعي- العسكري، لم يكن يعلَم أنّه سوف يحلّ محلّه المجمَّعُ الاستهلاكي- الاستيرادي، مما أدى إلى الزوال الفعلي للمجمّع الصناعي- العسكري».
إنّ إخفاق F-35 كأحد أضخم وأغلى مشاريع هذا المُجمَّع، قد يكون مؤشراً لانعطاف موضوعي في العلاقة المحددة لـ «فرق الكمون» بين «الاقتصادي» و«العسكري- السياسي» أمريكياً. فإذا كانت قد سادت مرحلة تميّزت بفرق كمون هائل بين تراجع القوة الاقتصادية الحقيقية للولايات المتحدة (بمثابة القطب ذي الشحنة السالبة)، وبين تنامي قوتها وبطشها العسكري والسياسي، بشكل فاعل سابقاً ثم باستمرار العطالة لاحقاً (بمثابة القطب ذي الشحنة الموجبة)، وكانت «تفرّغ» فرق الكمون هذا في الحروب العدوانية التي شنّتها، فإننا اليوم نشهد أكثر فأكثر تناقص «شحنات» القوة الأمريكية، ليس على جانب قطبها الاقتصادي فحسب، بل وقطبها العسكري- السياسي (وبالضبط بسبب إزمان السلبية والتراجع الاقتصادي في نهاية المطاف)، وإلى جانب تزايد قوى الردع السياسي والاقتصادي وحتى العسكري من قوى العالم الصاعدة، تبدو النتيجة: فتح إمكانات قوى السلام لـ«تأريض» واحتواء محاولات تفريغ التوتر الأمريكي الداخلي المنشأ في حروب واعتداءات خارجية جديدة.
ماذا يخبرنا فشل F-35 عن أمريكا ومجمّعها الصناعي- العسكري؟ (1)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1009