ماذا يخبرنا فشل F-35 عن أمريكا ومجمّعها الصناعي- العسكري؟ (1)
اعترفت القوات الجوية الأمريكية في شباط الماضي، بأن الطائرة الحربية من الجيل الخامس F-35 الشبح، وفخر الصناعة الحربية الأمريكية، والمشروع الصناعي- العسكري الأعلى تكلفة في العالم، قد فشلت، وبعد نحو 20 عاماً من البحث والتطوير (منذ أواخر 2000) يأتي إخفاق هذه الطائرة، التي تكلّف في كل ساعة طيران 36 ألف دولار، وتُقدَّر تكلفة عمر كل واحدة منها بـ 1,7 ترليون دولار، ليمثّل نكسةً مادية ومعنوية معاً للمجمّع الصناعي العسكري الأمريكي، لدرجة أنّ رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس دعا إلى «التوقف عن رمي الأموال في بالوعة الجرذان هذه بالذات». فضلاً عن تكرار حوادث طائرات بوينغ مؤخراً. في هذا التقرير سنكتفي بالتركيز على إخفاق F-35 نموذجاً– ونعتقد أنّ حوادث أخرى كمحركات بوينغ تشترك معها بأسباب منظوماتية للإخفاق– ونحاول وضعه في السياق العام للتراكم التاريخي الذي سبقه.
في البداية نلخّص من تقرير مجلة فوربس 23 شباط، أنه أشار إلى أنّ هذه المقاتلة التي كان يفترض أن تكون بديلاً أخف وزناً لمقاتلات F-16، صارت بالعكس أثقل (25 طناً) وأكثر تكلفة (100 مليون دولار سعر الطائرة الواحدة مع محركها)، بسبب إرهاقها بالمزيد من التكنولوجيا الجديدة من شركة لوكهيد مارتنLockheed Martin والجيش.
وكانت الحاجة إلى تطوير طراز جديد قد نشأت، بسبب صعوبة تطوير طائرة F-16 غير المتخفّية– ليست «شبحاً» والبالغ وزنها 17 طنًا– بحيث تحتوي أحدث البرامج المطلوبة. وأراد سلاح الجو لوحده قرابة 1800 طائرة من طراز F-35 لتحل محل F-16 وA-10 القديمة، وتشكل النهاية المنخفضة لمزيج مقاتل منخفض الارتفاع، مع 180 طائرة F-22 ذات المحرك المزدوج. ولإدراك مدى الإخفاق حتى على المستوى الكمّي، يجب التنويه إلى أنه منذ 2003 على الأقل كان هدف المشروع هو الوصول إلى دمج حوالي 3000 طائرة F-35 في القوات الأمريكية والبريطانية بحلول 2026، لكن اليوم وبعد 15 عاماً من أول رحلة لطائرة F-35 لا تمتلك القوات الأمريكية منها حتى الآن سوى 250 طائرة فقط. يجدر بالذكر بأنّ المشروع مركزه أمريكي، ولكنه «متعدد الجنسيات» وفشله ينسحب على القوى الأوروبية وغيرها المشاركة فيه، إضافة إلى فشل «إسرائيل» أيضاً التي أوكل إليها «شقّ أمني» من المشروع. وهو إخفاق ينسحب أيضاً على تلك الدول المطبّعة، إذا تم استئناف صفقات بيعها هذه «الأشباح».
لقد دخلت عملية تطويرها في حلقة معيبة: كان ارتفاع التكاليف يؤدي إلى التأخير، فيستغل المطورون التأخير لإضافة مزيد من التعقيدات على التصميم، والتي بدورها تصبح أكثر تكلفة، فتؤدي إلى مزيد من التأخير... وهكذا دواليك.
«شبحٌ» واحد 4 مشكلات رئيسة و871 عَيباً!
حدد «جريزر»، ضابط مشروع الرقابة الحكومية، أربع مشكلات رئيسية في مقاتلة ف-35.
(1) لم يتم إنشاء بيئة محاكاة حتى الآن تمكّن المقاتلة وقت السلم من إثبات فعاليتها.
(2) حطمت F-35 الرقم القياسي لعدد الإخفاقات والأعطال. فما إنْ يزيل المهندسون أحد العيوب، حتى يُكتَشَف عيب جديد. ولا تزال تعاني من 871 عيباً رئيسياً و10 منها مصنّفة عيوباً حرجة.
(3) تحديات في شبكة الصيانة وقطع الغيار المستندة إلى خدمة تخزين البيانات السحابية ALIS. وفي عام 2020، اعترف مؤلفو المشروع بالهزيمة وتعطيل ALIS.
(4) مشروع F-35 لا يعتمد على الصفات القتالية الضرورية للمقاتلة المستقبلية، بل على متطلبات التكنولوجيا: أجهزة استشعار جديدة، وطلاءات ماصة للراديو، ومعدات غريبة في قُمرة القيادة. المشكلة أن العيوب الأساسية للطائرة جزء لا يتجزأ من تصميمها الأصلي؛ حيث افترض المصممون من البداية تزويد الطائرة بكثير من التقنيات غير المختبرة، ولكن «المُذهِلة» ثم بدأوا التفكير بكيفية جمعها في طائرة واحدة: سرعة فرط صوتية، قدرة إقلاع من حاملة طائرات... إلخ.
نتائج دراسة هندسية حديثة
في دراسة منشورة في المجلة العلمية «بلوس ون» PLOS ONE بعنوان «منع الانزلاقات والتجاوزات والإلغاءات: تطبيق استقصاءات ونظرية حوادث المنظومات لفهم ومنع فشل المشروعات الهندسية» يختار الباحثان زهاء 30 نموذجاً تاريخياً من حوادث أو إخفاقات لمشروعات هندسية متعددة المجالات، منها: طائرة F-35 (إلى جانب مشاريع أخرى مثل بوينج 787 دريملاينر، ومفاعلي تشرنوبل وفوكوشيما، وبعض الرحلات الفضائية الفاشلة).
وفي جدول خاص قاما بتلخيص أبرز مشكلات مشروع F-35 اعتماداً على تقارير خبراء حكوميين وغيرهم: (1) إشراف سيّئ من شركة لوكهيد مارتن على مورّديها ومتعاقديها من الباطن. (2) الاعتماد الشديد على محاكاة الكمبيوتر كبديل عن الاختبار في العالم الحقيقي لخفض التكاليف، وتزامن الإنتاج مع التصميم والاختبار، مما خلق «حلقة مكلفة ومحبطة من غياب القرار» [انظر لاحقاً حول تميّز المنهج السوفييتي بالفصل بين هذه المراحل]. (3) مشكلة موافقة مسؤولي البنتاغون على الاكتفاء بادعاء شركة لوكهيد بأن المحاكاة الحاسوبية قادرة على تحديد مشاكل التصميم، لكن كشفت الاختبارات المبكرة عن عيوب لم تُلاحظها عمليات المحاكاة الحاسوبية. (4) محاولة إرضاء الكثير من العملاء معاً (سلاح الجو ومشاة البحرية والبحرية) في تصميم واحد محدود، مما قلل القواسم المشتركة بين النماذج الثلاثة. وكانت المشكلة الأكبر هي المفهوم الأساسي لبناء طائرة واحدة، بتقنية التخفي، بحيث تطير أبعد مسافة وبسرعة كما أرادها سلاح الجو مع القدرة أيضاً على الهبوط على الحاملات البحرية، والإقلاع عمودياً من السفن الهجومية البحرية البرمائية، مما انتهى بالطائرة لينطبق عليها المثل القائل «جاك يشتغل بكل المهن ولكنه لا يتقن أيّة واحدة منها». (5) إخلال الشركة بالالتزام بمتطلبات البرامج.
خلل منهجي مزمن منذ الحرب الباردة
نعتقد أنّ جزءاً مهماً من المشكلات المعاصرة المشخَّصة في F-35 ذو علاقة بمنهج البحث والتطوير R&D الصناعي الأمريكي منذ عقود سابقة، ولا تنفصل عن محدوديات البُنية «السّوقية» والنزعات الكامنة في المنظومة الإمبريالية. ولذلك من المفيد الرجوع إلى تقرير حزيران 1973 بعنوان «مقارنات بين التكنولوجيا الأمريكية والسوفييتية» الصادر عن فرعٍ من مؤسسة راند RAND (المدعومة من الحكومة والجيش الأمريكي) ومتخصص بأبحاث القوات الجوية الأمريكية، ونقتبس منه ما يلي:
«إنّ تطوير الطائرات في الاتحاد السوفييتي له سمات مؤسساتية تختلف تماماً عن معظم الأنشطة المماثلة في الولايات المتحدة، حيث تميل إلى التأكيد على التصميم التطوري، لتكون خالية نسبياً من تقلبات الطلب، التي غالباً ما تمنع استقرار تصميم الطائرات وتطويرها في الشركات الأمريكية، كما أنها أقل عرضة لضغوط الزبائن التي تؤدي إلى سبل محفوفة بالمخاطر التكنولوجية... السوفييت يستثمرون بشكل مميز في برامج الطائرات الفردية وبموارد أقل، مقارنة مع الممارسة السائدة في الولايات المتحدة– على الأقل من خلال نقطة اختبار الطيران الأولي– وبالتالي، بالنسبة للاستثمارات المكافئة في البحث والتطوير للطائرات، يبدو أن السوفييت قادرون على إيصال أعداد أكبر من نماذج الطائرات عبر مراحل النموذج الأولي واختبار الطيران».
«يُفضل الاتحاد السوفييتي عموماً نمطاً من التصميم والتطوير المستمر، مع إنجاح النماذج التطورية على فترات منتظمة، مع اعتماد واضح على النماذج الأولية كمُعين على قرارات الإنتاج. هذا يختلف تماماً عن أسلوب تطوير الطائرات العسكرية الأمريكية منذ أواسط الخمسينات، حيث ينصب التركيز على الإنتاج أكثر من البحث والتطوير، وتعود الأرباح على المنتجين أكثر مما تعود على المطوِّرين. عملاء البحث والتطوير العسكري السوفييت لديهم نفور واضح من التكنولوجيا عالية المخاطر. أما في الولايات المتحدة فعادةً ما يُعرب العملاء العسكريون عن تفضيلهم الواضح للتقدم الكبير في التكنولوجيا، دون اكتراثٍ كبير بشأن المخاطر، ومع استعداد لدفع ثمن باهظ».
وشدد التقرير على اختلافين كبيرين. وأولهما: «أن أكثر من ثلثي عمليات البحث والتطوير في الولايات المتحدة تقوم بها مؤسسات صناعية تتنافس مع بعضها للحصول على التمويل، وعملية تصنيع المنتوج، والتي تتضمن البحث والتطوير. أما في الاتحاد السوفييتي فهناك منظّمات متخصصة منتظمة التمويل، ومستقلّة عن إنتاج المصانع، هي التي تقوم بالجزء الأكبر من البحث والتطوير، بينما يتم دعم البحث والتطوير الدفاعي في الولايات المتحدة بشكل أساسي من الصناعة والنفقات العامة، أو أرباح العقود الفيدرالية أو الإعانات. ويميل هذا الدعم إلى الانكماش كلما انخفض الطلب على المنتوج. أما الروس فيضمن لهم التمويل المستقر ابتكار أفكار أسلحة جديدة واختبارها بغض النظر عن الاتجاهات المتغيرة في سياسات شرائها أو نشرها».
أما الاختلاف الثاني الأهم وفقاً للتقرير فهو: أنّ عملية صنع الطائرة السوفييتية تمر بأربع مراحل تقسيم عمل مميزة ومستقلة عن بعضها: (معاهد البحث، مكاتب التصميم، مؤسسات الاختبار، ومصانع الإنتاج). أما في الولايات المتحدة: «فتؤدي مسابقة التصميم عادةً إلى اختيار مُقاوِل واحد، أو على الأكثر اثنين من المتعاقدين المسؤولين عن عملية التطوير التي تندمج في عملية الإنتاج».
ومن خلاصات التقرير: «السوفييت ينفقون ساعات أقل في عمل التصميم لكل رطل من هيكل الطائرة مقارنة بالولايات المتحدة، لكنهم يبنون المزيد من النماذج الأولية ونماذج الاختبار قبل الالتزام بالإنتاج... وينتجون أعداداً أكبر من تصميمات هياكل الطائرات الجديدة والنماذج الأولية، أكثر مما تنتجه عادةً قوة تصميم هندسي أمريكية مساوية بالحجم».
ماذا يخبرنا فشل F-35 عن أمريكا ومجمّعها الصناعي- العسكري؟ (2)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1008