دراسة حديثة تكشف إيجابية الغضب لحلّ المشكلات إبداعياً

دراسة حديثة تكشف إيجابية الغضب لحلّ المشكلات إبداعياً

«الفرح والغضب يحفِّزان الإبداع بطريقتين مختلفتين معرفياً؛ فبينما قد يستفيد الفرح من كفاية الموارد المعرفية ومرونتها، يمكن تماماً للغضب أنْ يعتمد، بالعكس، على تركيز الانتباه العالي لمنبّهات مستجدّة في حالةِ تثبيط خفيف لوظيفة التحكم المعرفي للمنطقة الأمامية من قشرة المخ الجبهية. وفي حين يزيد الفرح معدِّل الدقَّة في حل المشكلات إبداعياً، يؤدي الغضب إلى تسريع ردّ الفعل» – كان هذا ملخص الاكتشاف الرئيس لدراسة تجريبية تعاونَ فيها باحثون من مختبر الذكاء التفاؤلي التابع لمدرسة الماركسية في جامعة فوجيان الصينية، وأقسام علم النفس بجامعات بكين وفوجيان، بتمويل حكومي صيني بالكامل؛ من مؤسسة العلم الطبيعي، ووزارة التأسيس التربوي، وصناديق بحوث بناء القدرات للابتكار العلمي التقني. نُشرت الدراسة في مجلة علم النفس الصينية- الأسترالية PsyCh Journal بتاريخ 26 آب 2020.

الفرضية المُختَبَرة

«إنّ الغضب يُعطِّلُ وظيفة التحكم المعرفي للمنطقة الجبهية الأمامية من قشرة المخ (المعروفة اختصاراً بـ PFC)، مما ينقص القدرة على التفكير المعتمد على المحاكمة العقلية التقليدية، لكنه بالمقابل يزيد القدرة على التفكير الإبداعي». علماً بأنّ قلّة من الباحثين، كما ذكرت الدراسة، نشروا ما يؤيّد هذه الفرضية، بينما يعتقد أغلبية الباحثين بالتأثير السلبي للغضب على التفكير الإبداعي عموماً.

تجربتان

وفقاً للدراسة، في التجربة 1 استُخدِمَت تقييمات مادحة أو ازدرائية أو محايدة موجَّهة تبادلياً من زملاء إلى زملائهم الآخرين المشاركين بالتجربة، لتحريض مشاعر الفرح أو الغضب أو مشاعر محايدة. بعد ذلك، استُخدِمَت مهمة تفكيك الأحرف الصينية التي طورها «لو» و«كنوبليتش»، والتي تتضمن مهامَ تفكيكٍ إلى أجزاء chunk-decomposition tasks لتقييم التفكير التقليدي والإبداعي. يمكن أن يتم تفكيك الأحرف الصينية إما على مستوى «الجذر اللغوي» radical أو مستوى «جرّة القلم» stroke. مستوى الجذور هو نوع فضفاض من التفكيك يعكس تفكيراً يميل إلى العقلانية التقليدية، أما مستوى جرّات القلم فيعتبر تحدياً أكبر يتطلب تفكيراً إبداعياً وجِدّةً وبصيرة أكبر. كانت غاية التجربة 2 مزيداً من استنساخ تأثير الغضب على التفكير الإبداعي، حيث عُرضت على مجموعة أخرى مقاطع سينمائية من قاعدة بيانات خاصة بالدراسات النفسية للتحريض العاطفي البصري، يتبعها تحدي «مهام الاستخدامات البديلة» AUT لاختبار التفكير التباعدي divergent thinking (قدرة الفرد على تفكيرٍ مختلفٍ من حيث اتجاهاته ومنظوراته ومعاييره، دون تقييد نفسه بمنظور ثابت لعملية التفكير). شارك بالتجربة الأولى 90 طالباً وطالبة، وفي الثانية 60، من جامعات مختلفة في بكين، في العشرينات من أعمارهم.

تفسيرات نفسية

«في التجربتين الموصوفتين حصلنا على ملاحظات انسجمت بشكل كبير مع فرضيتنا. فأولاً: أدت إثارة كل من الفرح والغضب إلى تحسين أداء الأفراد في مهمة تفكيك الأحرف الصينية. وثانياً: بالمقارنة مع السعادة والمشاعر الحيادية، أدى تحريض الغضب إلى تحسين مهم بأداء الفرد في مهام التفكير التباعدي باختبار الاستعمالات البديلة AUT. إن عدم الاتساق بين نتائج الفرح والغضب يشير إلى أنهما يسهّلان الإبداع بآليتين مختلفتين. فالأمزجة التنشيطية (كالغضب والخوف والسعادة والغبطة) تؤدي إلى طَلاقةٍ وأصالةٍ إبداعيَّتَين أكثر مما تفعله الأمزجة التثبيطية (كالحزن، والاكتئاب، والاسترخاء، والاستكانة). ويمكن أن يُعزى سبب تأثير الأمزجة التنشيطية هذا إلى تحسين المرونة المعرفية عندما تكون النبرة إيجابية، وإلى تحسين المواظبة عندما تكون النبرة سلبية. وهناك تفسير آخر ينسب الظاهرة إلى وجود (نماذج ذات عملية مزدوجة) لحلّ المشكلات بالبصيرة. الوجدان الإيجابي يعزّز ضمناً قبول التلميحات ويوسّع بحث الناس عن فضاء المشكلة، بينما يشجّع الوجدان السلبي الناسَ على التركيز الشديد على حلّ المهمّة بالبصيرة (أوريتا، وهاتوري 2019)».

تفسيرات نفسية- بيولوجية

«من منظور علم النفس البيولوجي Biopsychology، فإنّ التأثير الإيجابي للمشاعر الإيجابية على مرونة الاستجابة والإبداع، يتحقق عبر تعزيز إفراز الدوبامين في الدماغ (أبحاث 1987). لقد استنتجنا بأنّ تعزيز الإبداع عبر الفرح يرتبط بقوة أكثر بتوافر موارد معرفية كافية ووظائف تحكُّم معرفي جيدة، الأمر الذي قد يكون سبباً في تفوُّق الفرح من حيث التأثير على دقة الاستجابة. وفي انسجامٍ مع فرضيتنا الرئيسة فإنّ تحريض الغضب قد يعزز أداء مهمات التفكيك إلى أجزاء المتطلِّبة جدةً واستعمالاتٍ بديلة. وكلا الأمرين يدعمان التأثير الإيجابي على التفكير الإبداعي الذي يتميز به الغضب. فبالمقارنة مع الفرح، يستهلكُ توليدُ الغضب كميةً كبيرة من الموارد المعرفية، لكن إضافةً إلى عوامل عامة يشترك فيها الغضب مع المشاعر السلبية في تحريض الإبداع (مثل زيادة المثابرة وتركيز الانتباه)، ربما تكون هناك عوامل نوعية خاصة بالغضب تمكّنه من تسهيل التفكير الإبداعي؛ فقد يوجد تفاعل بين الغضب والتفكير العقلاني في تحريض الإبداع. وفي حين تتطلب عملية التفكير العقلاني حالة ذهنية هادئة ورصينة نسبياً، وتعتمد على المنطقة الأمامية من القشر المخي الجبهي PFC والمناطق الدماغية الأخرى المسؤولة عن المعالجة المعرفية المتقدمة، فإنّ الغضب هو نسبياً حالة عاطفية عصبية عالية اليقظة والإنذار، وتترافق بتنشيط الشبكات العصبية المتعلقة بالانتباه الخارجي والوظيفة التنفيذية (فاغر 2015). كما أنّ حالة الكَرْب التي يُطلِقُها الغضب الشديد قد تعرقل الأداء الوظيفي الطبيعي في PFC لأنّ الكرب يحرّض نشاط المحور الوِطائي- النخامي- الأدرينالي HPA ويسهّل تحرير الكورتيزول، وهذا المحور معتمد على تنظيم مستقبلات الهرمونات القشرانية السكرية بالتلقيم الراجع السلبي، وهي مستقبلات واسعة الانتشار في PFC».

الفصام والغضب والإبداع

«بينت دراسات سابقة (1995، 2011، 2015) بأنّ الفصاميين لديهم نمط وراثي مشترك مع ذوي المستويات العالية من التفكير الإبداعي، يؤثر على الإفراز الطبيعي لناقِلَين عصبيَّين: فيزيد تركيز الدوبامين وينقص تركيز السيروتونين، والنتيجة، هي نقصٌ مُوافِق بالتثبيط المعرفي. وهذا الشذوذ قد يؤدي إلى الفصام أو خصالِ الشخصية الفصامية، وإنتاج أفكار إبداعية. واقترحت أبحاث أخرى تعود للعام 2005 بأنّ فضاء الاستجابة المعرفية لدى الأصحّاء محصورٌ إلى حد كبير بوظيفة الفص الجبهي، والذي لا يشجّع على حلّ مهمّات تفكيك الكيانات المضغوطة إلى أجزاء. وبالمقابل فإنّ الأنماط المعرفية التكرارية المنطوية على التعلم من التجربة والخطأ، الموجودة لدى مرضى فصوص المخ الجبهية الظهرية الجانبية، تكون مناسبة أكثر لحلّ هذا النوع من المهمّات. وبالتالي، توحي هذه الموجودات مجتمعةً بأنّ مستوى منخفضاً من التحكم المعرفي يعلب دوراً إيجابياً محتملاً في تعزيز التفكير الإبداعي. ولذلك ربما يُضعِفُ الغضبُ التفكيرَ العقلاني بواسطة تعطيل وظيفة الفصوص الجبهية الأمامية، واضعاً الشخص بحالة تحكُّمٍ معرفية منخفضة، معزّزاً بالمقابل تفكيرَه الإبداعي».

الغضب كتكيُّف عاطفي وارتقاء

«من منظور التكيف العاطفي فإنّ الهدف الوظيفي للغضب هو إزالة الحواجز واستعادة الحرية (دراسات 1989). وبالمثل، يتطلّب الإنتاج الإبداعي قيامَ الأفراد باختراق النمطيّات... وقد يزيد التشابهُ الوظيفي بين الغضب والإبداع النزوعَ السيكولوجي لدى الأفراد نحو تغيير حالتهم الذهنية. وأخيراً، من منظور التطور الارتقائي، فإنّ الغضب تجربة عاطفية تُشعِرُ الفرد بتعرّض مصالحه للانتهاك، ما يدفعه لمحاولة منع المزيد من انتهاكها عبر الانتقال إلى الهجوم. ويكون الغاضبون عرضةً لتقييمات إيجابية للخطر، وخيارات المخاطرة، وميّالين لإنتاج آراء وصنع قرارات سريعة وفي وقت محدود (ليرنر وتيدينز 2006). ونتيجة لذلك، وبالمقارنة مع الأفراد بحالة عواطف إيجابية، فإنّ الغاضبين قد يتجاهلون الدقة، ويضحّون بها، لمصلحة الوصول إلى حلٍّ سريع».

معلومات إضافية

العدد رقم:
983
آخر تعديل على الإثنين, 14 أيلول/سبتمبر 2020 12:48