مَن انتصرَ في حرب الكورونا:  «مناعة القطيع» أم «تصفير العدوى»؟

مَن انتصرَ في حرب الكورونا: «مناعة القطيع» أم «تصفير العدوى»؟

لماذا تتعامل بعض البلدان مع جائحة COVID19 بشكل أفضل من غيرها؟ السؤال بسيط بشكل خادع، لكن الإجابات متنازع عليها بشدة. وسأجادل بأن الصعوبات تنشأ من الاستقطاب المضلل بين الإستراتيجيات «الاستبدادية» المزعومة والإستراتيجيات «الليبرالية». وقد أدى ذلك إلى انتقاد خاطئ لما يسمى بـ «عمليات الإغلاق» على أساس أنها لا بد أن تكون «قمعية على نحو لا مفرّ منه»، ولا سيما عندما يقترن هذا الانتقاد بادعاءات كاذبة، بأنه يمكن تجاهل خطر فيروس كورونا بأمان، مما أدى إلى نتائج مأساوية، كما في بريطانيا، حيث تتربع على عرش نسبة من أعلى نسب العالم من حيث الوفيات لكل مليون نسمة من السكان (667 وفاة بكورونا لكل مليون بريطاني) وقت كتابة هذا التقرير (في 13 تموز 2020 وتم تقديمه في 28 تموز كورقة إلى نادي فالداي للدراسات في موسكو).

آلان فريمان
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

إني أفرق بين نوعين من أنظمة الرعاية الصحية: أنظمة «اجتماعية التوجه» أم «نقدية التوجّه» [monetised من «نقود»]. في النوع الأول: يُعد الحصول على الرعاية الصحية حقاً: بمعنى أنه رعائي شامل، ويتضمن الدعم المادي الكامل (من رب العمل أو الدولة) للأشخاص الذين يتعطلون بسبب المرض، وتتحمل فيه الدولة المسؤولية العامة عن الصحة، بما في ذلك البحث والتطوير وتوفير المنتجات الصيدلانية. أما في النوع الثاني: فتكون الرعاية الصحية امتيازاً متاحاً فقط لتلك الأقلية من السكان التي تستطيع تحمّل تكاليفه، ويتميز بصناعة طبية تسعى للربح.
وتُفهم استجابة الصين بأنها «تصفير انتقال العدوى ضمن نظام صحي اجتماعي التوجّه» بينما استجابة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا هي في الأساس «مناعة قطيع داخل نظام نقدي التوجّه». يجب تشخيص الحالات الوسيطة بينهما أيضاً، كما أقترح، على طول هذين المحورين. سيسمح لنا ذلك بتصنيف البيانات لتقديم معلومات ذات مغزى اجتماعي وطبي. ضمن نظام صحي اجتماعي، لا تنقذ إستراتيجيات الانتقال الصفري الأرواح فقط، مع عدم وجود قيود إضافية على الحريات الفردية، بل يمكنها، ويجب عليها، أن توسع هذه الحريات. في المقابل، تشكل إستراتيجيات مناعة القطيع تهديداً لكل من الحياة والحرية، ولا سيّما في الأنظمة الصحية نقدية التوجه. وعلى وجه الخصوص، فإن الدوافع المتواصلة لإعادة الناس إلى العمل قبل أن يكون قد تم القضاء على مصادر العدوى، ستحرمهم وأسرهم ومسنِّيهم من حق الإنسان الأساسي في الحياة والصحة! لا يمكن فرض هذا إلّا من خلال انتهاكٍ كبير لحقوق القوى العاملة، والتي كانت تاريخياً الضامن الأكبر للحقوق المدنية العامة.
قد تظهر ما تسمى «عمليات الإغلاق» كجزء من أي من الإستراتيجيتين (شكلياً)، ولكن مع عواقب مختلفة تماماً. وبالتالي، فإن ما إذا كان الإغلاق قمعياً يعتمد على ما إذا كان الهدف توفير المال أم توفير الأرواح.

«مناعة القطيع» مقابل «تصفير العدوى»

الأولى: هي نهج الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، والثانية: كانت نهج الصين والعديد من دول شرق آسيا. ومناعة القطيع طبياً معترف بها، ويفترض أن العدوى تمنح المناعة. وعلى فرض أن هذا صحيح، فإذا تركت العدوى تنتقل بحرية عبر السكان، فسيتم الوصول إلى نقطة معينة (تقدَّر مثلاً بنسبة 65٪ من السكان في بريطانيا) يحدث عندها كسرٌ لسلسلة العدوى. وهذا يتطلب إصابة أقل من 100٪ من السكان [وهناك معادلة عامة لحساب ذلك هي بطرح مقلوب رقم التكاثر الأساس للوباء (المعروف ب R0) من الرقم 100، وعلى اعتبار هذا الرقم لكورونا المستجد هو 3 إلى 4 يكون المطلوب، هو أن يصاب بالعدوى ما بين 66% إلى 75% من السكان حتى نحصل على مناعة قطيع! – ملاحظة المُعرِّب]. إن إستراتيجية مناعة القطيع «السلبية»، التي اعتمدتها في البداية الحكومة البريطانية أدت لنتائج كارثية، لا تتخذ أية خطوات لتقليل معدلات انتقال العدوى على الإطلاق. ما هو غير مفهوم جيداً، هو أنه يمكن دمج إستراتيجية مناعة القطيع مع «الإغلاق» وليست بديلاً عنها.
أما إستراتيجية «الانتقال الصفري» فتعتمد بشكل أساس على التدخل الفعال السريع والاحتواء والعزل. الهدف إنشاء مناطق غير مصابة والتحكم في الحركة فيها، وفي المقابل، تطويق مراكز العدوى ومنع الخروج منها. ورغم أن هذه الظروف المتطرفة (والمؤقتة) تحمل شبهاً شكلياً بالعمليات المطولة والمتذبذبة والمؤلمة الجارية في الغرب، إلا أنها في الواقع مختلفة تماماً عنها، ولهذا السبب من وجهة نظري، يجب التخلص من مصطلح «الإغلاق» أو استخدامه بدقة وتحديد أكثر [فـ«إغلاق» الصين مختلف جذرياً عن «الإغلاق» الغربي وفق الكاتب].

الحياة والحرية والسعادة ما الذي غيّرَهُ كوفيد؟

تتركز المناقشات الحالية على أنّ الاختيار الإستراتيجي الرئيس الذي تواجهه الحكومات، هو بين «الإغلاق»، والذي يتم تعريفه عموماً بحصر التواجد الشامل في المساحات السكنية، وبين نوع مما يسمى «البدائل السويدية» ذات التعريف الغامض، المشتملة على عدد أقل من التدخلات الحكومية في حرية الفرد.
مع ذلك فإن إجراءات الإغلاق القمعية هي في الواقع نتيجة لإستراتيجيات مناعة القطيع! وليس بالضرورة أن تطبّقَ ضمن إستراتيجية «انتقال صفري للعدوى» بل يعتمد هذا على البلد والظروف. كما أن هذه الإجراءات ليست السمة المحددة للانتقال الصفري، وليس بالضرورة أن تطبَّق بطريقة قمع ضمن هذا الأخير. لا أنكر أن تضحيات، مخيفة ومقلقة في بعض الأحيان، تنتج عن إستراتيجيات تصفير انتشار العدوى، فمثلاً: كان عدم التمكن من حضور مراسم الدفن مصدر حزن كبير للعائلات الصينية، التي فقدت أحد الأحبة. لكن المتضررين من ذلك، من الواضح بالطبع لا يرغبون بتعريض المزيد من أحبائهم لخطر الموت بالفيروس. سبب الضيق إذاً هو الفيروس، وليس الإجراءات المستخدمة لمكافحته، وهذا يؤدي إلى استنتاج لا مفر منه: كلما قل عدد الإصابات قلَّ الضيق. أما ما يطرح نفسه للنقاش فهو سؤال: إذا ما كانت تدابير الانتقال الصفري يتم اتخاذها بالتراضي أم بالعنف؟ وهذا بدوره يعتمد على ما إذا كان المجتمع يقدّم الدعم الاجتماعي الضروري للأفراد المتضررين. وتشمل هذه الضمانات العامة: تأمين سبل العيش، الوصول المجاني إلى العلاج، والبيئات المريحة والآمنة للعزل، أي كما كان الحال غالباً في معظم الصين بالفعل.
هنا تبرز أهمية مركزية نظام الصحة اجتماعي التوجه. هذه ليست قضية ثقافية أو أخلاقية بل مادية. في نظام صحي اجتماعي حقيقي، يكون الوصول إلى الصحة مجانياً وشاملاً، وجزءاً من نظام أوسع لحماية الحياة، بما في ذلك سبل العيش الكريم والبيئة للمرضى والمعوقين وكبار السن. يتم تنظيم مرافق الرعاية كجزء من النظام الصحي بمعايير النظافة وحماية الموظفين، وتوفير معدات الحماية وما إلى ذلك، مثل: المستشفيات والعيادات. خلال الأوبئة، يمتد هذا الدعم المادي للأشخاص الذين يحتاجون إلى العزل. في ظل هذه الظروف، تكون الخطوات البسيطة- مثل: التعليم العام، جنباً إلى جنب مع الوصول الشامل إلى الرعاية التخصصية، من خلال العيادات وأسرّة المستشفيات- فعالة حتى مع الموارد الصغيرة، كما هو موضح في البلدان الفقيرة تماماً، مثل: كوبا أو فنزويلا، والتي كانت فعالة في مكافحة جائحة كوفيد الحالية.

الديكتاتورية على «القطيع»

في الأنظمة نقدية التوجّه، لا يمكن الحصول على الرعاية الصحية إلا لمن يستطيع الدفع. فعندما تحدث جائحة، يفسح مثل هذا النظام الطريق لممارسات قمعية بالواقع، لأن أولئك الذين ليس لديهم وسيلة للدفع لا يمكنهم عزل أنفسهم دون تعريض سبل عيشهم للخطر. إن تقديم الخدمات الصحية نقديّ التوجّه أيضاً يُعد المصدر الحقيقي للضغوط المشوهة، التي تمارسها شركات الأدوية الكبرى، لأنها تخلق كيانات مؤسسية تتعارض احتياجاتها الخاصة، ولا سيما الأرباح، باستمرار مع الحاجة الاجتماعية للصحة. التأثيرات في قطاعات، مثل: رعاية المسنين، والتي تحولت إلى مشاريع سوقية ربحيه ينتشر فيها الإهمال، ويكون الضحايا هم الأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم سياسياً واجتماعياً، حالتهم هي نتيجة مباشرة لكسب المال من الضعفاء. في تورنتو (كندا) يُقال: إن الوفيات في قطاع الاستثمار الخاص تجاوزت تلك الموجودة في القطاع العام بنسبة أربعة إلى واحد! القمع وفقدان الحريات المدنية جزء لا يتجزأ من إستراتيجيات مناعة القطيع في النظم الصحية نقودية التوجّه، لا في إستراتيجيات تصفير العدوى. ففي بلدان، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتمتع بصناعة طبية عالية الدخل، أو المملكة المتحدة التي اتخذت قرارات هدامة لنظام الصحة العامة، ستكون هناك حاجة إلى تغييرات جذرية لتصحيح هذه الأخطاء التاريخية. علاوة على ذلك، فإن المهمة ليست صعبة على الإطلاق من الناحية الاقتصادية، بل العقبة سياسية. ينبغي في الواقع تنفيذ هذا الجانب المركزي لإعادة الإعمار بعد كوفيد على الفور.

المدير المشارك لمجموعة أبحاث الاقتصاد الجيوسياسي، جامعة مانيتوبا، وينيبيغ، كندا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
978
آخر تعديل على الإثنين, 10 آب/أغسطس 2020 13:28