أزمة العمل المأجور كانعكاس لأزمة الرأسمالية؟
إن العمل المأجور يشكّل التعبير المباشر عن النظام الرأسمالي القائم على نهب القيمة الزائدة التي يحققها العمل. وعلى الرغم من التحوُّلات التي طرأت على الرأسمالية عالمياً في العقود الماضية نحو تضخم دور رأس المال المالي الريعي في البنية الإمبريالية، وتحديداً تضخم القسم المجرم منه عبر تجارة المخدرات والاتّجار بالبشر وسوق الجنس، إلا أنّ أخذ البنية الرأسمالية عالمياً في وحدتها فإن العمل المأجور هو القاعدة التي عليها تستند الأدوات المالية للإمبريالية عبر نهب الثروة المنتجة في العالم، وتحديداً في دول الأطراف الخاضعة لآليات النهب المالي والتبادل اللامتكافئ.
والعمل المأجور هو القاعدة المحددة لنمط الحياة في المجتمع، إما للعاملين بأجر، أو غير العاملين بأجر على السواء، حيث المعطّلين عن العمل فئة منهم. نمط الحياة القائم على الاستهلاك واستدامة الدورة الاقتصادية للرأسمالية في سعيها إلى تحقيق الربح. ولهذا فإن الكلام عن الأزمة العميقة للرأسمالية يفترض الكلام أيضاً عن أزمة العمل المأجور، والتي تفترض تناولاً لا ينفصل عن إرساء النموذج البديل عملياً.
العمل المأجور وتناقضات الرأسمالية
العمل المأجور هو قاعدة انتظام نمط الحياة (العلاقات الاجتماعية الموضوعية) في المجتمع الرأسمالي، مدعوماً بالثقافة والتفكير السائدين متضمنة تطلعات الأفراد ودوافعهم ونظرتهم إلى العالم.
ولكنَّ هذا الانتظام متطور تاريخيّاً، وخصوصاً بعد توسّع هامش العمل الذّهني والذات الإنسانية والتضخم في الحاجات المعنوية التي صارت عنصراً قوياً في معاناة الإنسان المغترب. فاغترابه نابع من التناقض بين حاجاته وبين دوره الاجتماعي المحدَّد اليوم بالعمل المأجور والبنية السياسية والثقافية- الفكرية التهميشية للرأسمالية. ولهذا فتناقضات الرأسمالية اليوم مدمرة للقوى المنتجة، ليس فقط من خلال الحرب والإقصاء المادي والإفناء المباشر للبشر، بل هي تدفع إلى تدمير قوة العمل البشرية من خلال التناقض بين طبيعة العمل المأجور نفسه وبين التطلُّعات والحاجات الإنسانية في المرحلة التاريخية الراهنة. ولهذا فإن إنقاذ المجتمع البشري يتضمن ليس فقط تغيير ملكية وسائل الإنتاج والسيطرة على الثروة، بل تحول في النمط الاجتماعي ككل القائم على العمل المأجور. فالتناقضات المدمرة لقوة العمل (الإنسان) والتي تقوم اليوم على العمل المأجور لم يعد ممكناً تجاهل حلّها ضمن التحول في النموذج الاقتصادي السياسي القائم. فحلّها لا يعني فقط حماية قوة العمل(الكامنة في لحم الانسان ودمه على حد تعبير ماركس) بل إن طاقة إنتاجية كبرى ستتفجر وتزيد انتماء الأفراد لدورهم المنتج الجديد، وتساهم بالتالي في تحقيق نقلات نوعية للأمام، وهذا ما تحتاجه المجتمعات التي تعاني تحديداً من تأخر نمو تاريخي كبير (ما شدد عليه د.قدري جميل في كتابه الأخير).
تجارب سابقة في هذا الاتجاه
بالرغم من أن البشرية شهدت مسبقاً تجارب أنماط تعاونية، لكنها إما انحكمت باقتصاد القلة كالمشاعية البدائية، وإما التجارب الاشتراكية الأولى التي لم تتخطَّ العمل التطوعي أو الأدوار الإدارية والتنظيمية للشعب، التي تجاورت إلى جانب العمل المأجور، فلم تصبح نمط حياة متبلور نتيجة انقطاع تطورها المبكّر. وعلى الرغم من المشاركة السياسية للأفراد في التجارب الاشتراكية وحصول تحول في البنية السياسية إلّا أنّ التجربة لم تتمكن زمنيّاً من التطور نحو انتقال قسم كبير من دور جهاز الدولة إلى المجتمع بشكل مباشر، كون هذا الانتقال يوسع من الأدوار السياسية والإدارية والتنظيمية للأفراد الذي لا يضمُّهم عادة جهاز الدولة، أي المجتمع بغالبيته فعلياً، وبالتزامن مع أنّ المجتمع لم يكن قد تخطى نموذج العمل المأجور كناظم لنمط الحياة ككل.
ملامح أولية لاحتمالات التحول
الانتقال سيكون في نمط الحياة نفسه، فالطاقة الاجتماعية يجب تحريرها من تناقضات النمط الراهن الذي يشكل العمل المأجور أساسه، والنمط الاستهلاكي العام وثقافته وقيمه الفردية هو إطاره الأوسع. فإلى جانب دور البنية الفوقية من ثقافة ووعي وطروحات وفنٍّ وأفكار عليها أن تعزز هذا الانتقال وتواكبه، ولكن عملياً يمكن التفكير بهذه الملامح الممكنة:
إنَّ قسماً كبيراً من قطاع الخدمات في المجتمع يمكن تحويله إلى العمل التطوعي لأفراد المجتمع بأسره حسب درجة الخبرة التي تميّز الخدمة المعنية(لنقل مثلاً قطاع النّظافة). وخصوصاً أنَّ قسماً آخر كالتجارة الداخلية سيتحول إلى تخزين وتوزيع محلي بإدارة مجتمعية محلية، وقسم كبير من قطاع الإنتاج الصناعي والزراعي يمكن ان يشارك في تشغيله المجتمع (مراجعة “سورية والاستقلال الثاني...تكون أو لا تكون”1 قاسيون عدد 910) مع إعداد تقني بسيط، وخصوصاً بعد توسع دور التكنولوجيا في هذه القطاعات (وحتى في بعض القطاعات الخدماتية). أي سيتوسع دور أغلب الأفراد لكي يطال مهام مختلفة، ولكن دورهم الأساس في علاقتهم بالعالم سيتركز في مجالات أشمل، وخصوصاً الإدارة والتنظيم. وهذا ما كان أشار إليه لينين مباشرة، وبشكل أعم ماركس عندما قال إن الفرد المستقلبي سيكون مضطلعاً بأدوار مختلفة.
إن توسع حدود قوة العمل إلى غير نمط العمل المأجور ذي التقسيم العالي للعمل، قابل لكي يحظى بحصة كبيرة في المراحل الأولية للانتقال حتى. وسترفع من مبادرة الشعب “وإطلاق حيويته في النشاط الاقتصادي الإنتاجي”(1) وتحل التناقضات الحادة المادية والمعنوية التي عبر حلّها سيكتسب النموذج المولود حديثا طاقة شعبية وتاريخية كبيرة، وقاعدة حماية من أوسع القوى الحية الاجتماعية.
وهذا لا يمكن تركه يتحقق بشكل موضوعي، بل يجب التخطيط لكيفية تحققه. نحو نمط الحياة الإنتاجي الجديد المحرر نسبياً لقوة العمل الذهني- الجسدي. حيث الفرد يقوم بدور جديد وأهداف جديدة وأحلام واسعة، لا يمكن لنمط العمل المأجور (والاستهلاك) الحالي وحده أن يعبّر عنها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 943