الممارسة تخلق معنى الحياة
مروى صعب مروى صعب

الممارسة تخلق معنى الحياة

في المقال السابق في العدد الماضي تحدثنا عن المعنى في تغيّره وتأثيره على الأفراد، وماذا يعني بالنسبة لكل فرد تغيّر المعنى في علاقته بمحيطه. وأخذنا نظرية فكتور فرانكل (ونقدنا لها) عن العلاج بالمعنى، من حيث إن تغيُّر الوضع اليومي للأفراد أدى إلى تغير في معنى الحياة.

بينما اعتبر فرانكل أن المعنى هو الهدف الأساس للحياة. اعتبرت أبحاث أخرى أن للانتماء تأثيراً على معنى الحياة، منطلقة من أنَّ الإنسان لا يستطيع العيش من دون علاقات اجتماعية أو مجتمع. ومن أن عدم وجود الانتماء يؤدي إلى اضطرابات نفسية وجسدية عند الأفراد استناداً إلى أن للنفسي تأثيراً على الجسدي، والتي تحدث بها العديد بدءاً من فرويد إلى رايش وغيرهم. أما نظرية الحركة (النظرية الثقافية التاريخية) التي تقوم على دراسات فيغوتسكي، اعتبرت أن المعنى هو الرابط والنتاج عن تفاعل الممارسة والأهداف المتشكلة في الحياة. فالممارسة المتغيرة في كل زمن في حياة الفرد تؤدي إلى تكون معنى للأشياء. المعنى التغيّر مع تغير الممارسة، وأن هذه الممارسة، وهذا المعنى في ارتباط دائم بهدف معين، هو أيضاً متغير بحسب التطور الذهني أو الوضع الاجتماعي للأفراد.
فالمشترك بين جميع هذه النظريات على مختلف أرضياتها المنهجية والفكرية: أن للمعنى تأثيراً على الأفراد. وإذا أخذنا الوضع الحالي في العالم من ارتفاع الاغتراب. إما بسبب النظام الرأسمالي الذي غرَّب البشر عن واقعهم وعن أنفسهم، أو بسبب الحروب التي غيرت معنى الحاضر والمستقبل عندهم، نرى أن معنى الحياة في كل علاقاته (علاقته بالانتماء أو بالحركة والهدف) تغيّر لكون أن الانتماء قلّ، والهدف اضمحل أو أصبح مشتتاً وغير واضح.

الانتماء والمعنى

يرتبط الانتماء عند البشر، أولاً: بضرورة الوجود ضمن مجتمع أو مجموعة معينة. من هنا يخلق الشعور بالقومية أو التطرف في الانتماء عند من فقد الشعور بالانتماء إلى المجموعة الأكبر أو إلى مجتمعه. وهذا موجود مثلاً إما في التطرف الديني، أو الانتماء المتعصب إلى الطائفة كما في حالة لبنان، حيث إن الأمان عند الأفراد موجود ضمن الطائفة أو المجموعة الدينية المحددة، كما أنّ العلاقات الاجتماعية التي هي جزء أساس من الانتماء هي ضمن هذه المجموعة. وبالتالي، يصبح الانتماء هو انتماء للطائفة لكون العلاقات الاجتماعية على مستوى المجتمع ككل غير موجودة إلا في هذه المجموعة. وهنا نتحدث عن علاقات العمل والزواج مثلاً. وهذا يخلق تناقضاً في مفهوم الانتماء وفي الوجود ضمن مجتمع أوسع، لكونه لا يمكن فصل هذه المجموعة عن المجتمع التي تتأثر به وتؤثر فيه. وهذا شبيه بالمجموعات النسوية أو اليوغا أو النباتيين أو محبي الحيوانات أو مشجعي فريق رياضي أو اليسار، أو أية مجموعة تعرّف عن نفسها أنها ضمن مجموعة معينة، لأن معنى الانتماء ووجوده هو من ضمن هذه المجموعة المحدّدة كهوية، وليس من ضمن المجتمع الأكبر.

المعنى والممارسة والهدف

تعتبر نظرية النشاط، أن الممارسة المتغيرة دائماً هي من تخلق معنى للأشياء، وأبسط مثل هو تكوّن المعنى عند الأطفال، المرتبط بممارستهم التي يقومون بها، وبنشاط الأهل والمحيط الذين هم جزء من علاقاته. وهذه الممارسة موجهة دائماً نحو هدف ما، الذي يتغير أيضاً مع تغير الوقت أو الظرف، فللطفل هدف معين وهو اللعب مثلاً، أو حتى الاكتساب الذي لن يكون نفسه مع مرور الوقت، والذي سيتغير هدفه. وبالتالي، تتغير ممارسته منتجاً معاني جديدة. وهذا مثيل عندما يكون للمريض نشاط جديد حسب مرضه يؤدي إلى تغيّر هدف الحياة عنده، لأنّ معنى الحياة قد تغيّر مع قدرة حركته وحركة محيطه. وهكذا أيضاً عندما تتغير حركة المجتمع وتتغير العلاقات الاجتماعية، مما سيعطي معنى جديداً لها. إذا كان هذا المعنى هو فقدان الانتماء فسيكون الهدف حينها هو البحث عن الانتماء الذي سيُوجّدُ إما في مجموعة صغيرة «متخصصة» أو في مجموعة أكبر جديدة.
إن حركة المجتمع، وتغير الظروف، يغيّر الكثير من المعاني التي لا تفقد قيمتها السابقة بل تتحول. وعند تحولها سيتغير الهدف القادر على تحصيلها. وبالتالي، سيؤدي إلى تغيّر الممارسة من جديد. وإن كل جديد وكل تغير يجلب معه تقدماً عن اللحظة السابقة. وبالتالي، من هذا التقدّم في الممارسة يجب أن نخلق تطوراً في المعنى مرة أخرى. وكما يقول فرانكل إن معنى الحياة يكتسب تعريفه من أسلوب التعاطي مع المعاناة التي لا يمكن تجنبها، وهكذا فإن الممارسة الجديدة للتعامل مع المعاناة المتجددة هي محددة مسار التقدم الإدراكي والوعي. ومع اختلاف طريقة التعامل مع المعاناة يختلف الموقف من الواقع. وبالتالي، تختلف المعاني الناتجة عنه.
وما سبق هو محدد لمجمل ظاهرة الوعي والإضرابات النفسية والذهنية، وهو ما يؤسس للظاهرة الثقافية والأخلاقية بشكل عام في المرحلة الراهنة. فالموقف والدور غير المبالي أو الانتظاري أو الهارب من الواقع يؤسس لنمط من الممارسة، هو بدوره يؤسس لمعانٍ في الوعي تثبِّت ذهنيةً وأفكاراً معينةً، كالموقف العدمي الفاقد لقيمة الحياة، وهو ما يجلب بدوره مآسي كبيرة على الصحة الجسدية والنفسية، وبلادةً وكبحاً للتطور الذهني. فالموقف السلبي من الواقع، يتوقع التحول وظهور الجديد دون اعتبار لتغيير الواقع نفسه ودور الإنسان فيه، أما على العكس، فإن الموقف الإيجابي الفاعل تجاه المعاناة، أي في التعامل مع أسبابها سينتج معاني وأهدافاً أوسع وأعمق، مرتبطة بالحياة والإنتاج بالرغم من الصراع وصعوباته. وبين الموقفين هُوّة شاسعة، هي المسافة بين الحياة الموت، بين الابتذال والإبداع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
930
آخر تعديل على الأربعاء, 11 أيلول/سبتمبر 2019 15:33