الرأسمالية الانتحارية ومعنى الوجود
مروى صعب مروى صعب

الرأسمالية الانتحارية ومعنى الوجود

في حياة أي فرد ومن وجهة أية نظرية في علم النفس، يبقى المحدد هو الصراع بين الحياة والموت, أي حماية الذات في كل أشكالها المادية والمعنوية, والبحث عن الوجود أو القيمة هو المحرك الأبرز في هذا الصراع. ففي هذا التناقض الأعلى عند الإنسان تكمن جميع محاولاته نحو الوجود واستمرارية للحياة ومحاربة الموت أو الفناء. إن كان عبر الإيمان بالحياة الثانية بعد الموت, أو من خلال الإنجاب أو التكاثر, أو ترك تأثير ما في المجتمع بعد الموت, كما في حالة العِلم أو النضال السياسي أو الفن أو الأدب وغيرها.

وتتناقض المشاعر عند الحديث عن الموت, الذي يعتبر عند العديد أسوأ ما يمكن أن يحدث. فجزء من رفض الموت أو البكاء على الفقيد هو خوف من موت الإنسان نفسه أو فقدان الحياة. فمثلاً نجد عند المتشردين أملاً في تغيير ما قد يعيد إليهم حياتهم السابقة، أو قد يجلب لهم حياة جديدة, والتشبث بما هو موجود حتى في أسوأ حالاته, وقد يكون التشرّد من أسوأ الحالات, ولكنه أفضل من الموت أو الفناء. وهذا الموقف من الموت لا يتعارض مع التصالح معه, أي التصالح مع نهاية الوجود, فحتى في هذا التصالح يكون موجوداً التشبث بالحياة وإطالتها.

فماذا عن الانتحار؟

من الممكن أن الانتحار هو من أكثر أشكال الموت استفزازاً للوعي, إما من جهة الموقف الإيماني بعدم التحكم بالموت والحياة من الناحية الدينية, أو من جهة الخوف من الموت إيّاه. ومن الصعب تعميم سبب الانتحار، إلا بأنه فقدان الأمل في الحياة, هذا الأمل المرتبط بالهدف والمعنى منها الذي بفقدانهما يفقد الإنسان جدوى الاستمرار. لكون معنى الحياة يختلف بين الأفراد؟ وبالتالي تختلف قيمة الحياة, ولكن المشترك بينهم جميعاً هو وجود هدف ما ومعنى ما. وهذا المعنى هو نتيجة عوامل عدة, من المفاهيم الاجتماعية والثقافة, إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي, إلى نسبة الوعي عند الأفراد, إلى الوضع الخاص (الطبقي بالأساس) لكل فرد ودوره المحدد لعلاقته بواقعه. فهذا يعني أن من يملك معنى للحياة وقيمة لوجوده يرفض فكرة الانتحار, لأنها مرتبطة بفقدان هذه القيمة وفقدان هذا الهدف. والتطرف نفسه في غالب الأحيان يكون أيضاً كشكل من البحث عن القيمة أو معنى للوجود, حتى لو كان هذا الفعل هو الانتحار, ففعل الإنتحار هنا يكون معبراً بالشكل الأقصى عن السّعي للحياة, ولكنه سعي باء بالفشل.
ويعد فقدان الأمل والقيمة أو الانتحار ثاني سبب للوفاة عالمياً عند الشباب والمراهقين. التي تعتبر منظمات عالمية أنه من الممكن تجنّبه أو الحد من نسبه عبر إجراءات تحد من وصول الجميع إلى وسائل الانتحار, مثل مبيدات الحشرات والأسلحة التي تعد من أكثر الوسائل استخداماً للانتحار. وعبر التوعية من خلال برامج تدريب الشباب على التأقلم مع ضغوطات وصعوبات الحياة!
فبحسب منظمة الصحة العالمية، تحصل حالة انتحار واحدة في العالم كل أربعين ثانية, ما يعادل 800,000 حالة وفاة ناتجة عن الانتحار عام 2016, أو بمعدل 10,5 أشخاص لكل 100,000 شخص. هذه المعدلات تتفاوت بين البلدان المتقدمة والفقيرة, وتتراوح من 5 أشخاص لكل 100,000 شخص إلى 30 شخصاً لكل 100,000 شخص. وتتفاوت بحسب الجنس أيضاً، حيث إنه يقوم الرجال بالانتحار بمعدل ثلاث مرات أكثر من النساء في البلدان ذات الدخل المرتفع, بينما النسب لا تتفاوت في البلدان ذات الدخل المتوسط والمتدني. وتبيّن الأرقام أيضاً أنّ حصة حالات الانتحار في البلدان ذات الدخل المتوسط والمتدني هي الأكبر من حالات الإنتحار عالمياً (أخذاً بعين الاعتبار الفروقات في التعداد السكاني بين الدول التابعة والنامية وبين الدول الغنية ودول المركز الرأسمالي), إلّا أن معدل الانتحار نسبة لعدد السكان في كل دولة هو الأعلى في الدول ذات الدخل المرتفع.
وإن كنا نعتبر أنه يجب الحد من الانتحار أو رفض فكرته أو الإقدام عليه, فهذا يعني أن المعالجة يجب أن تكون في تحديد سبب الانتحار وتغييره, وليس في الحد من الوصول إلى مبيدات الحشرات أو الأسلحة أو حتى وضع أسلاك شائكة في أعالي بعض المباني العالية كما تعمد بعض الدول! ولكون الموت بمعناه الاجتماعي- التاريخي لا يعني الفناء الجسدي للفرد فقط, بل يعني الفناء الوجودي أو الروحي للبشر, فالانتحار هو في حالته الحالية نوع من الوباء المهدد لهذا الوجود البشري, وهو الشكل الآخر, غير الحرب, من الأزمة التي يعاني منها النظام الرأسمالي العالمي.
يصف ستيفن كينغ (كاتب امريكي) في إحدى رواياته (مقبرة الحيوانات الأليفة)(Pet Cemetery) ما يمكن للإنسان القيام به للحفاظ على قيمته أو وجوده في الحياة, والتي تتمثل في الرواية بالعائلة والانتماء إليها. لا أعلم إن كان الكاتب قد وصف ذلك عن قصد أو غير قصد، ولكن تبقى الفكرة مثيرة في قدرة هؤلاء الكتاب على الولوج إلى أعمق تناقضات الفرد وتصويرها, ولكن الأهم هو في تناقض ذلك مع كونه كاتباً يبث الدعايات السياسية للولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر في رواياته.
إذا كانت معالجة البحث عن معنى الوجود هو في خلق قيمة فِعليّة، له فإن أساليب التوعية لن تغير شيئاً. إن تعفّن النظام الحياتي الرأسمالي يخلق هذا الفراغ والعدم والعمل على خلق قيم وجودية جديدة يتطلب طرح نظام حياتي نقيض ضد الاغتراب والبرود, وحسب الشروط السياسية والاجتماعية الموجودة, ومتطلباته, أما الرأسمالية فانتحارية في جوهرها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
931
آخر تعديل على الإثنين, 16 أيلول/سبتمبر 2019 12:49