عن حرية الإرادة والتغيير!
عالجت مقالات سابقة في قاسيون اتجاهات فلسفية سائدة في المرحلة الراهنة، وهي في غالبها امتداد لمرحلة ما بعد الحداثة من ناحية المنطق التفكيكي والعدمي، ولكنها تشكل اليوم تتويجاً لهذا المنطق في مرحلة الأزمة العميقة للرأسمالية.
في تلك المقالات تمت الإشارة إلى تيار واسع الانتشار اليوم في علم النفس السائد والفلسفة السائدة، وحتى علم الأعصاب والدماغ، وكلها تعلن: أن الوعي لا وجود له، والذات الإنسانية هي عبارة عن تجليات للعمليات الدماغية العصبية، ومنها يصل هذا التيار للخلاصة المنطقية لهكذا طرح ألا وهي: إن حرية الإرادة هي مقولة غير حقيقية ولا وجود لها. ويبدو أن هذا الطرح هو في جوهره إعلان صريح عن نفي الإنسان عملياً، مما يُظهر تجاوزاً حاداً للمنطق الليبرالي نفسه، الذي كان سائداً طوال العقود الماضية، والذي يضع الذات الفردية في صلب المشروع الإنساني الثقافي لليبرالية. تناقض الفكر السائد مع مقولات الليبرالية دليل على الأزمة الفكرية للنظام في مرحلة أزمته الاقتصادية والاجتماعية السياسية. وكما أنّ الحرب هي إلغاء سياسي مادي للإنسان، فإن نفي وعي الإنسان وذاته هو إلغاء فكري له. ولكن ما زالت الوقائع عنيدة وما زلنا نواجه.
إرادة من؟
إن الذات الإنسانية بحسب هذا التيار السائد، هي: إما غير موجودة، وإما هي تجلٍّ وهمي في حقل الوعي الظاهري للفرد (الفينومينولوجي). وهذا الموقف من الذات ليس إذاً امتداداً لتراث فلسفي تاريخي يُعبّر عن أزمة الفكر المثالي، أو الفكر ما قبل الماركسي عامة. في كتاب «أحجية الذات» (نشر عام 1980) يعتبر الكاتب السوفييتي فيليكس ميخاييلوف أنّ كل التفكير السائد (ما قبل الماركسي) في التاريخ حول الوعي ومصدره وجديده وقوانينه لم يلتقط الأساس الموضوعي له. ويركز ميخاييلوف على فكرة العمل المنتج في واقع اجتماعي تشاركي ضروري، فيه من المشاكل المطلوب حلها، مؤسسة للتناقض الذي يؤسس للتجريد والتعميم. ليس هذا الموقف إلا امتداداً للتراث السوفييتي المتمثل بنظرية النشاط (فيغوتسكي ورفاقه وتلاميذه) التي تعتبر أن أدوات التفكير وبنيته هي انعكاس للنشاط العملي القائم على حل المشاكل العملية في إطار واقع مشترك لإنسان فاعل يُغيّر الواقع بتفاعله مع فاعلين آخرين تحركهم كلهم حاجات ضرورية متطورة، هي حسب «تيخوميروف» تشكل العنصر السببي في تطور الوعي والتفكير. ولذلك حسب نظرية الانعكاس المزودج، التي هي جزء من نظرية النشاط، فالذات ليست إلّا نتيجة للتدفق المستمر لانعكاس النشاط العملي الخارجي نفسه أولاً. ومن ثم على المستوى الثاني، هي انعكاس داخلي للوعي أمام نفسه، حيث يتشكل حقل الوعي، ومن ضمنه الذات كعبارة عن العنصر الفاعل في النشاط المنعكس. الذات إذاً هي: عنصر مادي أصيل، وليست كياناً مثالياً كما يعتبر التيار السائد الذي يُعلن صراحة وهمية الذات.
القسم المفكر من الوعي: الـ «الأنا»
إذا كانت الذات هي عنصر أصيل ضمن بنية الوعي، فإنّ مجرد وجود هذا العنصر وتفاعله يفترض حاجات موضوعية تختلف نوعياً عن حاجات الجسد المادي الفيزيولوجي، بل هي ما اصطلح على تعريفها الحاجات المعنوية الروحية، وهي الحاجة للاعتراف بالقيمة حسب مختلف مستويات تحصيل هذه القيمة (عاطفية، إنتاجٌ وتقديرٌ اجتماعي شامل، تقدير الفرد لذاته...). ولكن الذات ليست نفسها هي ذلك القسم المفكر من الوعي الذي يعالج ويتعامل مع مجمل الظواهر الموجودة. للتكثيف والتبسيط نقول: إنّ القسم المفكّر هو نتاج نوعية النشاط الذي يقوم به الإنسان في المجتمع، ونتاج الثقافة والفكر الذي يتلقاه هذا الفرد. ولهذا فإن اختلاف نوعية النشاط والثقافة والفكر التي يفعل ضمنها الإنسان تؤدي إلى أدوات تفكير محددة، وبالتالي إلى نوعية تفكير مختلف. القسم المفكر هذا هو ما اصطلح على تسميته بالـ «أنا» الواعية.
الذات والأنا
إن القسم المفكر هذا يتطور حسب تطور النشاط، وحسب المشاكل التي يتصدى لها في الواقع. هنا مثلاً تقع مقولة: أن نظرية تحرر الطبقة العاملة هي النظرية التي لا تخاف من خلاصاتها، وهي التي تملك أساس النقد الذاتي، فهي بسبب طبيعة المشكلة التي تتصدى لها تحتاج إلى فكر موضوعي نقدي جذري لا يقف عند حدود، كون عملية تحررها بحكم موقعها التاريخي تحتاج إلى فهم الواقع وعلاقاته، وهي تقدمية على طول الخط. وبالتالي، فإنّ اختلاف موقع الفرد ونشاطه الاجتماعي يؤهله لكي يتعامل بشكل موضوعي مع الظواهر الموجودة أو لا يؤهله نسبياً لذلك. وكون الذات هي جزء من هذه الظواهر، الذات التي لها قوانين تحكمها انطلاقاً من الحاجات التي هي في أصلها اجتماعية تاريخية، فإن القسم الواعي يحتاج إلى أدوات تفكير وموقع طبقي تاريخي محدد لفهمها.
الحرية هي وعي الضرورة
حسب ماركس، إن الحرية هي وعي الضرورة، ليس فقط وعي ضرورات الواقع الخارجي، بل أيضاً وعي ضرورات الذات وبنية الوعي التي هي انعكاس للواقع الخارجي. هنا تكمن أسس حرية «الإرادة» وحرية الأنا وقرارها. واليوم مع توسع دور الذات وحاجاتها المعنوية، فإنّ الحرية الفردية تكمن في توسع قدرات القسم المفكر لكي تعالج قضايا هذه الذات وقوانين الوعي الفردي.
خلاصات سريعة
على أساس وجود الذات وقوانينها، وانطلاقاً من موقع تاريخي طبقي سياسي محدد، هناك اليوم موقع القبول بالثقافة الليبرالية، التي تحمل مقولات ذاتية فردية وهمية عن الذات وكيفية تحقيقها، وهناك على العكس الموقع النقيض الثوري الذي يعتبر أنّ التحقق الذاتي يحتاج إلى التغيير ضمن علاقات إنتاج مختلفة تكون أساساً لتحقيق حاجات الذات. حرية الإرادة موجودة وممكنة انطلاقاً من الموقع الثاني الثوري، ضد إجرام الفكر السائد وإلغائيته.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 923