جينات مُنحازة
نجحت الرأسمالية على مدى عقود بتفريق الشعوب إلى عدة مجموعات، الفرق في العمر بين أطفال وشباب وشيوخ، الفرق بين الجنسين، أو بين الميول الجنسية التي تفرخ كل بضعة أشهر، أو بين الأثنيات، أو الأديان وغيرها. وكان لهذا التفريق أن كُرِّس في أذهان البشر لدرجة أنهم أصبحوا ينطلقون من خلاله في تحليلهم لواقعهم، وفي إيجاد مخرج لمشاكلهم. وهذا التفريق أخذ جميع الأشكال الاجتماعية، وكُرِّس في المؤسسات الاجتماعية كافة.
جينات مُنحازة
بعد دخول علم الجينات مرحلته المتقدمة في القرن الحالي، في إمكانية اعتباره جزءاً من الأبحاث في الأمراض والأدوية خاصة، أصبح أيضاً جزءاً من الأبحاث النفسية والاجتماعية. وحتى مع بساطة القول أن لأيّ مرض جسدي أو اضطراب نفسي سبباً جينياً، ولكن العملية ليست ببساطة انتقال جينات من جيل إلى جيل. فهي انتقال الجينات عبر أجيال لأن هذه الجينات استطاعت التغلب على غيرها والانتقال، أو استطاعت التأقلم مع محيطها، وبالتالي أصبحت أقوى من غيرها. وأنّ لهذا التغلب أو القدرة على التغير والتأقلم سبباً اجتماعياً أو يومياً في التغير في الحاجات أو استخدام أعضاء الجسد، فنتج هذا التغيّر عن تغيّر في تركيبة الجينات. ويختلف الأمر بين الاضطرابات النفسية والأمراض الجسدية، كونه في الأخيرة تلعب الجينات دوراً مباشراً في المرض، أما في النفسية فهي مساعد أو محفز لحصول الاضطراب ولا تعني ضرورة حدوثه.
وهذا يعني أيضاً: أنه بالرغم من أننا كبشرٍ لدينا نفس عدد الجينات ونفس التركيبة، إلّا أنّ تأثير بعضها وبروزه قد يختلف بحسب البيئة الجغرافية، والعمل الذي نقوم به. فمن يعيش في الجبال عليه القيام بمجهود مختلف عمّن يعيش في الصحراء أو في المدن أو قرب البحر. هذه المهام أو الجهود تعني اختلافاً في عمل جِين عن آخر، واختلافاً في تقدم جِين عن آخر، واختلافاً في نوع الطفرات وبروزها أو قوة بعضها. وبالطبع هذا الاختلاف البسيط بالنسبة للجسد، لم يتم ببضعة سنين، بل كان نتيجة تطور البشرية عبر آلاف السنين.
ولكن معظم الأبحاث الجينية مُسيطر عليها من قبل الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لذا فهي أيضاً منحازة لمنطق التفريق. فبحسب دراسة في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية، إنّ معظم الأبحاث الجينية تقوم على من هم من أصل أوروبي، يبنما تشكل الأصول الأخرى أقل من 10%. وتستخدم هذه الأبحاث في إيجاد دواء للأمراض، خاصة المستعصية أو غير المتنقلة منها. ولكن كون الأبحاث الجينية دقيقة جداً وتقوم على عمل الطّفرات، فإن وجود طفرة في من هم من أصل أوروبي لا يعني وجود الطفرة ذاتها في من هم من أصل آسيوي أو إفريقي. فقد اعتبر البحث الصادر عن مجلة Cell العلمية من 21 الشهر الحالي أن الانحياز لمن هم من أصل أوروبي في هذه الأبحاث يؤدي إلى قلة معرفة في كيفية معالجة الأمراض المستعصية في الأثنيات الأخرى. ويؤدي إلى خلل في معرفة مضاعفات الدواء الموجه إلى طفرة أو جِين أو بروتين معين. فبمعنى آخر، إن الأبحاث الجينية التي تؤدي إلى تركيب دواء معين لمعالجة أي من الأمراض المستعصية، تقوم على التركيبة الجينية والطفرات الموجودة عند من هم من أصل أوروبي، والتي تختلف عند الأفارقة أو الآسيويين. وبالتالي، الدواء الذي يعالج السكري مثلاً في إفريقيا غير فعال بالنسبة نفسها لأي فرد من أصل أوروبي.
خطوة أولى
حتى لو أنّ نقد انحياز الجينات حافظ على نفس التجزيء التي يتبعها من يقوم بالانحياز ولكنه يضيء على نقطة مهمة، وهي: إبقاء البشر في دائرة الاختلاف والفرق في المستويات. وخاصة في عمل دقيق مرتبط بعمل الجينات والطفرات، أي: التطور الذي وصلنا إليه كبشر اليوم في جسدنا وكيفية عمله. ولكن أقله: أنّ هذا النقد وجه إصبع الاتهام إلى الانحياز واعترف بضرورة توسيع دائرة الأبحاث الجينية لكي تدرس في اختلاف تأثيرها. وهذا التفريق يجد المنطق نفسه في الأبحاث النفسية والاجتماعية، حتى لو أنه لا يمكننا الانطلاق من نفس المنطلق هنا. مثلاً: اعتبار العامل الجيني يشكل نسبة من الإصابة إلى الزهايمر، أو الانفصام، أو الاكتئاب أو غيرها من الأمراض النفسية. ولكن الأمراض النفسية دائماً مرتبطة بالاجتماعي، وهنا يطغى العامل الجيني في علم النفس السائد، ويغيب العامل الاجتماعي. ويصنف البشر بحسب الجينات التي يحملونها، وليس بحسب البيئية الاجتماعية التي عاشوا وتربوا فيها.
وكون العلم السائد خاضع لمنطق التفريق يجعله يدور في نفس دوامة الفرق وليس الجمع. ويجعله يغيب عن العديد من الروابط التي قد تؤدي إلى معالجة العديد من المشاكل التي نعيشها، والتي في الأغلب تهدد حياة البشرية بطريقة ساذجة مقارنة بتقدم العلم اليوم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 907