«الحقد الطبقي» يشق طريق بصعوبة من جديد
كان لمفهوم «الحقد الطبقي» حضور بارز في فكر وممارسة قوى التغيير في مرحلة الصعود الثوري في النصف الأول من القرن الماضي. وهو كمفهوم نظري- سياسي هدفه الأساس: التعبير عن أن المعاناة، والنقمة والحقد المتولدون عنها لا بد وأن يتم توجيههما ضد حكم الطبقة الرأسمالية. فالحقد لا يجب أن يكون في حقيقته السياسية ضد شخص الرأسمالي كفرد، بل كجزء من طبقة. ما يعني بالضرورة: أن التّحرر لن يكون إلا بتحرّر المُستَغَلين كطبقة أيضاً. من أهم أهداف المفهوم إذاً، هو: تحويل الطبقة العاملة من «طبقة بذاتها إلى طبقة لذاتها»، أي: أن تعي نفسها كطبقة، وما هو مطلوب التحرر منه هو علاقة الاستغلال نفسها، كعلاقة اقتصادية اجتماعية رأسمالية. ولكن طوال التغييرات التي حصلت على شكل الاستغلال وأشكال الحكم المترافقة معه في العقود الماضية يبدو أنها أضعفت الطّرف المباشر من المعادلة، أي: الحقد.
البعيد عن العين
بعيد عن القلب!؟
كانت الطبقة البورجوازية المالكة في وجودها المباشر أمام الطبقة العاملة والزراعية تكثّف في حضورها الشخصي الفردي، وسلوكها وممارستها المباشرة، طبيعة علاقات الاستغلال وعنفها، في المصنع والأرض والورشة. ولهذا كان الشعور بالحقد لدى الطبقة المقهورة يجد طريقه مباشرة لأصل المعاناة الظاهر المتمثل في شخص (أو عائلة) مالك المصنع أو الأرض. ولهذا أتت الضرورة لتوسيع المفهوم ورفعه إلى المستوى السياسي العلمي في جوهره من خلال إضافة مصطلح «الطبقي» إليه.
ولكن بعد الثورات والتنازلات التي قدمتها البورجوازية والتحولات في أشكال الحكم إلى أكثر «ليبرالية»، وارتفاع منسوب «الديمقراطية» البورجوازية في آليات الحكم والانتخاب وغيرها، حصل تحول في مشهدية الحقد المباشر، فالطبقة البورجوازية المالكة انسحبت من المشهد العلني: ودعم ذلك التمويه عدة مستويات. أولاً: إن توسّع الاحتكارات وتمركز الثروة وتضخم القطاع الصناعي أو التجاري أو أي قطاع منتج قد تطلب من جهة تخضماً في الجهاز الإداري للمؤسسات الفردية نفسها، من جهة أخرى أدى إلى دخول العديد من المؤسسات الوسيطة بين الرأسمالي وبين المأجورين البروليتاريين، هذه المؤسسات الوسيطة التي هي ضرورة من أجل إدارة القطاع المتوسع المملوك من القلة الموجودة في أعلى الهرم، والذي بدأ يضيق أكثر فأكثر. وذلك رفع من تعقّد وتوسع الجهاز الإداري للمؤسسات مهما كان شكلها، والتي قد تدخل الدولة غالباً في ملكية بعض أسهمها. وربما كان للترابط في الاقتصاد العالمي وعولمة الإنتاج الدور الأكبر في البعد الظاهري بين من يملك وبين المأجور. كل ذلك أدى إلى افتراق في المكان، والزمان حتى، بين الحقد وبين التجسيم الفعلي لعلاقات الاستغلال، مما عكس المقولة: «ما هو بعيد عن العين، بعيد عن القلب».
ساعد ذلك أيضاً تعقّد أشكال المشاركة والتمثيل السياسي في الأنظمة البورجوازية، حيث تختلف هذه النسبة بين دولة وأخرى. وحتى الأنظمة التي تغيب فيها الانتخابات، هناك حضور للجهاز التمثيلي لأجهزة الحكم، والذي يغلب عليه طابع «رجال السياسة» من ديبلوماسيين وخبراء ومستشارين وغيرهم، بينما حضور الطبقة المالكة للثروة أقل نسبياً.
الحقد يشق طريقه بصعوبة
بعد انفجار الأزمة الرأسمالية عاد الحراك الشعبي للواجهة، ولكنه عاد أيضاً محمّلاً بتبعات تراجع العمل السياسي طوال العقود السابقة. لناحية التنظيم والرؤية التي تتلاءم مع التحولات في أشكال المعاناة والاستغلال. وانفجر الحقد المتراكم، ولكن كان للتمويه الذي جرى طوال العقود الماضية دوره في تعطيل وصول الحقد إلى تجسيمه الفعلي، فهل ينفجر الحقد ضد الحكومة؟ ضد النظام؟ ومن هو هذا النظام؟ هل هو الطاغية ممثل النظام في الأنظمة التي حكمت بقبضة أمنية؟ هل هم أمراء الفساد؟ هل هم أغنياء المجتمع؟ أم هم القابعون في «وولستريت» كما عبرت حركة «احتلوا وول ستريت»؟ هل هي الظروف التي لا يمكن تحميلها لأحد؟ أم هل تبقى النقمة دون أن تصير شعوراً بالحقد، كون الكثير من المعاناة لا يجد أصله الملموس في المجتمع، كغياب القيمة مثلاً أو الشعور بغياب معنى الحياة، أو الاكتئاب، أو عدم السعادة... من هي الجهة التي يمكن للحقد أن ينصب عليها حتى يجري فعلاً توجيه النقمة ضدها؟
إن جانب الحقد اليوم لا زال ناقصاً من كل ما يجب أن يحمله. فليس كل المعاناة تحملها القوى المقهورة إلى جهة ما قائمة فعلية، كالمعاناة المعنوية تحديداً. لذلك الأهم هو: أن تنتقل كل مشاعر النقمة والمعاناة لكي تتبلور في شعور من الحقد الفعلي. فيكون هذا تعويضاً للتمويه التاريخي في أشكال الاستغلال.
الجانب الآخر هو: تعويض التعقّد الذي حصل في حجم وطبيعة المؤسسات وأشكال توظيفات رأس المال وتوسع الاحتكارات، وترابط الفساد المحلي برأس المال العالمي، وتشابك علاقات التبعية بالنظام الإمبريالية أكثر. أي: إعادة بلورة للجانب الآخر من المعادلة، أي: مصطلح: «الطبقي». فالطبقي اليوم لا يتبسط في فئة بورجوازية واضحة يمكن عزلها عينيّاً، ولا هي مؤسسة حكم واضحة أيضاً.
وكل ما يجري اليوم من إعادة ربط أشكال المعاناة بأصلها في نظام رأس المال، إلى إعادة تعريف النظام العالمي الإمبريالي والتمييز بين القوى العالمية ضمن تعقد أشكال الصراع، هو إعادة إنتاج جديدة لمفهوم «الحقد الطبقي». فالمطلوب أن ينتقل الرفض إلى حقد، ولكن ضد تجسيمه الفعلي الذي هو في النهاية: النظام الرأسمالي العالمي، كعلاقة نهب مالي وانعكاسه فساداً ونهباً محلياً. واللوحة بالرغم من تعقيدها يجب ويمكن أن تتبسط، وأن تنتقل المعاناة إلى حقد، والحقد إلى وعي وفعل سياسي بالرغم من نتائج التمويه والتغطية بالنار الثقافية طوال العقود الماضي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 906