التشابه والتباعد بين الشعوب بين الفكر السائد والأممية
يعتبر علم النفس السوفييتي (من أمثال فيغوتسكي ولوريا وغيرهم) أن الوعي يتكون من البيئة المحيطة، المتغيرة دائماً. لذا فالوعي متغير من شخص لآخر بحسب البيئة المحيطة وبحسب ما تستطيع أن تخلقه هذه البيئة من إشكاليات للفرد، لكي يتطور وعيه من خلالها. والعناصر الأبرز، هي: النشاط الذي ينتج المعاني واللغة، التي من خلالها يتكون توصيف للنشاط وللمعنى وتسمح للوعي أن يصبح معقداً.
وهذه البيئة المحيطة هي عبارة عن جميع الأشياء والظواهر التي تحيط بالفرد منذ الصغر والتي تتسع مع تقدمه بالعمر، لذا هي متغيرة بين الأفراد لكون المحيط قد يختلف بتفاصيله. ولكن هذا المحيط في العام متشابه، لكوننا جميعاً نعيش في مجتمع مؤلف من أسرة، حي، مدرسة.. وإلخ من المكونات المشتركة للنظام القائم. وكوننا نعيش أسلوب حياة متشابه في العام، خلقنا قيما متشابهة، مثل: قيم الخير والشر، المحبة والاحترام وغيرها في التعبير العام. والاختلاف بين الأفراد يأتي في تعقد العلاقة بالواقع، وليس جوهر هذا الواقع، وفي الحالات الخاصة في مجتمع معين كالاحتلال أو الحرب. وأيضاً في العمل اليومي، أي: النشاط اليومي الذي ينتج معاني وبالتالي مصطلحات خاصة فيه، مثل: الفرق بين المزارع والعامل والجندي والمدرس والتاجر.. وإلخ. ولكن هذه الاختلافات هي نفسها في المجتمعات كافة، اختلاف الوعي والقيم والمصطلحات بين الفلاح والتاجر مثلاً هي نفسها في هذا المجتمع وذاك. ولكن في الإجمال المحيط العام (العالمي) انعكس بتكون وعي متشابه في العام ومتفاوت في الخاص.
التشابه والتفاوت في العلم السائد
مازال الوعي وتشابهه وتفاوته بين الأفراد والشعوب محور بحث واهتمام، لأن العلم الرسمي لم يستطع الحسم في أصل تكون الوعي، ولم يستطع تفسير وحل العديد من المعضلات حول الإنسان. لذا تتشابه الأبحاث النفسية والاجتماعية إلى حد كبير، ولا نعني تشابه المنهج الأكاديمي في البحث أو في ترتيبه، بل في الصياغة وعرض وتحليل النتائج. البحث هو دائماً عن الفرق أو التفاوت بين عنصرين أو أكثر، والتشديد دائماً على الفرق بين الذكور والإناث وبين الاثنيات المختلفة. وهذا الترتيب مشدد عليه في المحافل الجامعية والبحثية حتى أصبح من المسلمات عند من يقوم بأي بحث أن يرى هذا الفرق. ويأتي التحليل لكي يدرس الفرق بين هذا المجتمع وذلك وهذا الشعب وذلك. هذه الفروقات تستند على أننا جميعاً مختلفون عن بعضنا، وعلى أنه طبعاً هناك اختلاف بين الذكور والإناث. والأساس لهذا الاختلاف، هو أننا مختلفون من ناحية الوعي وتطوره، ولكن ليس من نفس المنطلق الذي انطلق منه علم النفس السوفييتي، أي: بمعنى بسيط من الاختلاف في الظروف والطبقية منها خصوصاً والمتعلقة بدور الفرد في عملية الإنتاج، بل هذا الاختلاف الذي تستند عليه الأبحاث النفسية والاجتماعية السائدة هو اختلاف بين الشعوب، مثلما تحاول الأبحاث الأمريكية إظهار الاختلاف بين البيض والسود واللاتين والشعوب الآسيوية في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو منهج مماثل للفرق بين الغرب والشرق، أو العرب أو الأفارقة أو الصينيين وباقي الشعوب، وهو يستنج على أن هناك شعوباً أرقى أو تمتلك وعياً أعلى من غيرها. وهذا «الاختلاف» ليس خاطئاً بالمطلق بل يحتمل بعض الصحة فيه، ولكن المسألة في كيفية تقديمه وأصوله، وخصوصاً ما الاستنتاج من تأكيد وجود اختلاف، وماذا يعني وجود هذا الاختلاف أساساً؟
العلم الرسمي يتراجع
أعدت جامعة براث البريطانية دراسة في 60 دولة ومع حوالي 140،000 شخصاً حول القيم الاجتماعية والأخلاقية والعقائدية، حيث قسمت العيّنة إلى جنسيات مختلفة، عقائد دينية، العمر، الجنس، المستوى التعليمي، والمدخول الشهري. تمحورت حول الفروقات في القيم بين هذه الدول، ونتجت عن 90% تشابهٍ بين الجنسيات و95% تشابهٍ في أجوبة الإناث والذكور. الهدف من الدراسة، بحسب القيمين عليها، هو الخروج من آحادية التحليل في الأبحاث الحالية، والتركيز على التشابه بين الأفراد أكثر من على الفروقات. وتلخصت إلى أن الخوف من أعداد المهاجرين في أوروبا ليس مبرراً كون التشابه بين الجنسيات هو أكبر من الفروقات.
تتمحور الأبحاث حول الفروقات لأنها طريقة لتطوير أية فكرة ما، أي في سرد ما كانت عليه الأشياء وما أصبحت عليه، يعطينا فكرة عن كيفية تطورها. ولكن المقارنة بهذه الطريقة (بين الجنسين أو الاثنيات مثلاً) زرعت في عقول البشر على أنها مسلمات، وعلى أن هناك دائماً: نحن وهم. هي من جهة، لكي تخفف، شكلاً، من الأزمات والمشاكل الاجتماعية التي زرعتها وخلقتها الرأسمالية، ومن جهة أخرى أصبحت نتيجة الخوف والجهل بالأخرين. حتى لو أنه اليوم من السهل عبر شاشات التلفاز أو عبر الإنترنت الوصول إلى أية معلومة عن أية منطقة أخرى، ومن السهل الخوض في ثقافتهم، إلّا أن هذه الثقافة هي عبر الناطق الرسمي للرأسمالية، وهي من مثبتي فكرة الفروقات بين الشعوب في وعي الأفراد.
الاختلاف في الوعي بين الأفراد هو نتيجة الظرف التي خلق فيه هذا الوعي، ولأن الظرف أو البيئة المحيطة ليست ثابتة بل متحركة، فإن الوعي وقدرة تطوره ليس ثابتاً بل هو متحرك أيضاً. لذا فان تشابه قيمنا هي أكبر من تباعدها، لأن تشابه ظروفنا هي أكبر من تباعدها أيضاً. فالطبقة العاملة في العالم مثلاً تتشابه في ظروف قهرها، ومعاناتها، وهي لذلك قادرة على التقارب مهما كانت ثقافتها الوطنية الخاصة، ولغتها ولون بشرتها، فهذا هو الأساس المادي للوعي الأممي.