تهم الليبرالية مردودة عليها
كوننا كائنات اجتماعية، فإن المجتمع هو العامل الذي يجمعنا ويحمينا ويؤمن تطورنا (البيولوجي والمجتمعي). وقد تغيرت- مع التطور الحياتي والعلمي والتكنولوجي- تركيبة المجتمع وعلاقاته بمن فيه. العامل الأبرز الذي أثرّ في تغير هذه العلاقة هو السياسي والاقتصادي الذي أسّس لهرمية اجتماعية وتبادل اجتماعي يومي. من هذه التغيرات نجد التغير في القيم التي تتحدد في المجتمع، وما هو مسموح اجتماعياً، وما هو غير مسموح، المثل الأبسط هو: الملابس وكيفية تغيرها مع تغير المجتمع وسيادة الليبرالية.
واليوم يعيش العالم بأسره إما في مجتمع ليبرالي أو تحت تأثيره، من المحتمل أنّ كوريا الشمالية هي الدولة الوحيدة التي لم تتأثر بالليبرالية بعد، وظروف الحصار سبب في ذلك. أمّا من مميزات المجتمع الليبرالي فهي المنافسة العالية التي تسود فيه، وعلى أساس هذه المنافسة تقوم فيه العلاقات الاجتماعية، تصطحب معها تفككاً وانتهازية عالية، كون هذه العلاقات تسود بحسب ما هو مطلوب منها، وبحسب مستويات المنافسة السائدة فيها. هذا ليس بمطلق، فالانتهازية والتفكك والمنافسة في العلاقات الاجتماعية ليست مطلقة وعامة ولكنها تشكل قسماً كبيراً من طابع العلاقات. وحتى لو انطبعت العلاقات الاجتماعية بتجانس ما في مكوناتها راهناً، إلّا أنَّ هذا التجانس قائم على المصلحة المشتركة الضيقة وليست العامة. وبالطبع كوننا لا يمكن أن نعيش خارج المجتمع فنحن نحتاج إلى الوجود الاجتماعي لكي يتطور إدراكنا ووعينا، فاللغة مثلاً نكتسبها لأنها طريقة التواصل مع المحيط، ومن دون هذا المحيط لا يمكن لنا أنْ نتعلم الكلام، تماماً مثل النشاط الواعي أو المشاعر أو أيّ عنصر من عناصر الإدراك والوعي. ولكن في مجتمع حيث يتربى الفرد فيه على المنافسة، وعلى المقارنة بينه وبين الأطفال الآخرين، وعلى المقارنة بينه وبين الأبطال الخارقين، والمشاهير، وحتى الحيوانات في الرسوم المتحركة، تسود المنافسة كأساس في العلاقات الاجتماعية. لأن الوصول إلى ما يجب الوصول إليه هو دائماً بالمقارنة مع الآخرين، وليس انطلاقاً من الذات وإنتاجها. وهذه الانطلاقة من الذات، من الواقع والممكن، هو ما تتهم به اللليبرالية الاشتراكية بالشمولية، وبعدم تقدير العنصر الذاتي في الأفراد. وهو، أي: الشمولية، تماماً ما تفعله الليبرالية التي لا تعترف بالعنصر الذاتي عند الأفراد إلّا من خلال المنافسة وإلّا من خلال مسار واحد للجميع، على الجميع أن يخوضوا طريقة الحياة نفسها للوصول إلى «السعادة»، هذا مع أطر محددة للشخصيات والمظهر والحياة اليومية.
ومع المنافسة يأتي التماثل، الذي يشكل طريقة لا واعية في التشبه بالغير وحماية النفس من الضعف، أي: حماية النفس مما لم نستطع الحصول عليه، مما هو غير موجود عملياً في حياتنا، لأن للحياة في المجتمع الليبرالي مسارٌ واحد يقود إلى «السعادة» والغنى، والعدول عنه أو عدم تحصيل شيء منه، مثل: الفقر، هو ضعف. فالتماثل هنا يدخل الحياة اليومية عن طريق ضغط المحيط من ضرورة المنافسة، أي: ضرورة التماثل مع الآخرين «الناجحين» لكي نكون أفضل منهم. وعن طريق المسار المتماثل الذي يقود إلى حياة «أفضل».
في زرع فكرة المنافسة عند الأطفال عمل لا واعٍ في أغلب الأحيان. والعديد من الأهل يعتبرون ذلك تشجيعاً لأولادهم. ولكن المحصلة هو التسابق الدائم بالمقارنة مع الآخرين وليس بالمقارنة مع ما يمكن لأي شخص القيام به، أي: مع القدرات الذاتية والجماعية. وفي زرع أو التربية على هذه الفكرة، الهوس الدائم بالآخرين، بحياتهم اليومية، المشكلة التي نجدها في العديد من الأطر الاجتماعية. وهذا الهوس في الآخرين وفي ما لم أستطع الحصول عليه يؤدي إلى منطق: إمّا معي أو ضدي. لأن الوجود في منافسة دائمة يحتم مجموعتين، مجموعة مع ومجموعة ضد.
مع تطور وتغير الحياة اليومية تغيرت علاقتنا بالمحيط، وقد يكون اكتسابنا للقيم والمفاهيم وطريقة العيش فيه غير واعية، ولكن ما ننقله من شخص إلى آخر أو من جيل إلى آخر، يحتم إما الاستمرار في نفس دوامة العلاقات أو تغييرها. وتغييرها يعني تخطي المنافسة والتماثل إلى تطوير القدرات الذاتية ضمن التطور الجماعي وتنوعه، التي تبدأ من خلال علاقات النظام القائم، وتتطور من خلاله. وقد يبدو هذا بسيطاً ولكنه يحتاج إلى مجهود جماعي لكي يحدث. ويحتاج إلى تغيّر في طريقة التفكير وفي ما نحتاج من الحياة، وما تمثل بالنسبة لنا. فإذا كانت الثقافة تمثل تقدماً وإمكانية للعمل والراحة والسعادة المنتجة، فهي تحتاج إلى مجهود جماعي لكي تصبح هكذا، أي: مشروعاً سياسياً بديلاً عن نظام الاستغلال والتهميش المعنوي. وإذا كانت تمثل السير نحو الشهرة والغنى فإنها تحتاج إلى الاستمرار في نفس طريقة العيش، والمخاطرة بأننا يمكن أن نكون من الفئة القليلة التي تخلق متمتعة بحظوة الوجود في أعلى الهرم، لا في قاعدته حيث السواد الأعظم من البشرية.