وضعية الجسد... جعلتنا بشراً
أندروز روي تشابمان مكتشف شهير وقائد لبعثات علمية تابعة للمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي. وطَّد نفسه مبكراً خبيراً في الحيتان. وبين عامي 1921م و1930م قاد ست بعثات علمية إلى آسيا الوسطى. وفي صحراء جوبي اكتشف مع رفاقه حقول متحجرات، وُجد فيها أول بيض ديناصورات يجدها بشر. كما وجدوا أيضاً دلالات على إحدى حضارات ما قبل التاريخ، وبقايا أضخم حيوانات الأرض البرية، التي يُعتقد أن عمرها 95 مليون عام.
بقلم: ستيفان جي غولد
عن موقع monthly review
ترجمة بتصرف: مشعل شيخ نور
ومع ذلك، فشلت تلك الحملات تماماً في تحقيق
هدفها المعلن: العثور على أسلاف الإنسان في آسيا الوسطى. وفشلوا لأبسط الأسباب: لقد تطورنا في إفريقيا، كما كان تشارلز داروين يتصور قبل خمسين عاماً.
تم اكتشاف أجدادنا الأفارقة (أو على الأقل أقرب أبناء عمومتهم) في رواسب الكهوف خلال عشرينيات القرن الماضي
لكن هذه أسترالوبيثسين فشلت في التوفيق بين المفاهيم السابقة، لما يجب أن تبدو عليه «الحلقة المفقودة»، ورفض العديد من العلماء قبولهم كأعضاء نافعين في سلالتنا.
وكان معظم علماء الأنثروبولوجيا يتصورون تحولاً متجانساً إلى حدٍّ ما من القردة إلى الإنسان، مدفوعًا بزيادة الذكاء.
ويجب أن تكون الحلقة المفقودة بين الجسد ودماغ إنسان نياندرتال المنحني، ولكن أسترالوبيثسين رفضت التكيّف. ومن المؤكد أن أدمغتهم كانت أكبر من أدمغة أي قرد بالمقارنة مع حجم الجسم، ولكن ليس أكبر من ذلك بكثير.
وحدثت معظم الزيادة التطورية في حجم الدماغ بعد أن وصلنا إلى مستوى أسترالوبيثسين، ومع ذلك، سار هؤلاء أسترالوبيثسين ذوو الأدمغة الصغيرة منتصبين مثلك ومثلي، كيف يكون ذلك؟
إذا كان تطورنا مدفوعاً بحجم الدماغ، كيف يمكن أن يكون الوضع المنتصب «سمة مميزة للأنسنة» - وليس مجرد سمة عرضية ؟
إنّ الفشل المذهل في بعض الأحيان في التنبؤ بالاكتشافات حتى عندما يكون هناك أساس سليم لهذا التنبؤ. والفشل في التنبؤ باكتشاف «حلقة مفقودة»، المعروفة الآن بـ [أوسترالوبيثكس]، والذي كان منتصباً «تمشي على قدمين» وصنع الأدوات، ولكنه كان يتميز بمظهر خارجي وسعة قحفية شبيهة بالقرد.
يجب أن نعزو هذا «الفشل المذهل» في المقام الأول إلى التحامل الخفي الذي أدَّى إلى الاستقراء التالي غير الصحي: نحن نسيطر على الحيوانات الأخرى عن طريق القوة العقلية؛ لذلك، يجب على الدماغ المتنامي دفع تطورنا الخاص في جميع المراحل.
ويمكن تتبع تقاليد إخضاع الوضعية «المشي على قدمين» المنتصبة إلى نمو الدماغ عبر تاريخ الأنثروبولوجيا. ويقول كارل إرنست فون باير، أعظم أخصائي علم الأجنة في القرن التاسع عشر في عام 1828: «الوضعية المنتصبة هي فقط نتيجة التطور الأعلى للدماغ... كل الاختلافات بين الانسان والحيوانات الأخرى تعتمد على بنية الدماغ».
وبعد مرور مائة عام، كتب عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي جي سميث: «إنّ الوضعية المنتصبة لم يكن لها دور في تحول القرد إلى إنسان، ولكن الاكتمال التدريجي للدماغ والبناء البطيء للبنية العقلية، كان له الدور الأكبر».
وضد هذه الجوقة من التركيز على الدماغ، أيّد عدد قليل جداً من العلماء أولوية الوضعية المنتصبة. فاعتمد سيغموند فرويد عليها في الكثير من نظريته الخاصة عن أصل الحضارة عليها. بدايةً من رسائله إلى ويلهلم فليس في تسعينيات القرن التاسع عشر، والتي تُوجت بمقاله حول الحضارة وسخطها في عام 1930.
وناقش فرويد حينها، بأن فرضية الوضع المنتصب قد أعادت توجيه إحساسنا الأساس من الرائحة إلى الرؤية، وهذا التخفيض في قيمة الشم قد حوّل موضوع التحفيز الجنسي لدى الذكور من الروائح الدورية للشبق إلى الرؤية المستمرة للأعضاء التناسلية الأنثوية.
فالرغبة المستمرة لدى الذكور تؤدي إلى قبول مستمر لدى الإناث، فالبشر ناشطون جنسياً في جميع الأوقات على عكس الثديات الأخرى التي لها فترات إباضة فقط.
والنشاط الجنسي المستمر يركز على الأسرة البشرية، ويجعل الحضارة ممكنة؛ الحيوانات ذات التقارب الدوري لا تملك قوة دافعة للهيكل الأسري المستقر.
ويخلص فرويد إلى أنّ «عملية الحضارة المصيرية»، كانت ستنطلق من تبني الإنسان لوضعية جسدٍ منتصبة.
وعلى الرغم من أن أفكار فرويد لم تحظَ بأية متابعة بين علماء الأنثروبولوجيا، إلّا أن هناك تقليداً ثانوياً آخر قد نشأ للتأكيد على أولوية وضع الجسد العامودية.
ووضعية الجسد المنتصبة تحرر اليدين وتجعلهما تتحركان، ولأول مرة، يمكن تصميم الأدوات والأسلحة واستخدامها بكل سهولة. إن الذكاء المتزايد هو إلى حد كبير استجابة للإمكانات الهائلة نتيجة تحرر اليد وإمكانية التصنيع من خلالها.
ولم يكن هناك أي عالم أنثروبولوجي ليجادل بأن الدماغ ووضعية الجسد مستقلان تماماً في التطور، وأنّ هذا الشخص قد بلغ وضعه الإنساني الكامل قبل أن يبدأ الآخر في التغيير على الإطلاق. نحن نتعامل مع التفاعل والتعزيز المتبادل. ومع ذلك، فإن تطورنا المبكر ينطوي على تغير أسرع في وضعية الجسد أكثر من تغير حجم الدماغ. تحرير كامل من أيدينا لاستخدام أدوات سبقت معظم التزايد التطوري لدماغنا.)
ويقول أوكن: «إن الإنسان بالمشي المنتصب يكتسب شخصيته»، «تصبح الأيدي حرة، ويمكن أن تحقق جميع المكاسب الأخرى... مع منح حرية الجسد حرية العقل أيضاً».
لكن بطل الوضعية المنتصبة خلال القرن التاسع عشر هو هيغل «داروين الألماني»، أعاد هيجل بناء سلفنا وأعطاه اسماً علمياً.
من المحتمل أن تكون (البدائية) هي الاسم العلمي الوحيد الذي أُعطي للحيوان قبل اكتشافه، وعندما اكتشف يوجين دوبوا رجل جافا في تسعينات القرن التاسع عشر، تبنى اسم الهيكل العام، لكنه أعطاه اسماً جديداً محدداً، وهو اريكتوس البدائي. الآن عادة ما تشمل هذا المخلوق في جنسنا كما هومو اريكتوس.
وباستثناء نياندرتال (وهو نوع جغرافي من نوعنا، وفقاً لمعظم علماء الأنثروبولوجيا)، لم يتم اكتشاف أية حفريات بشرية حتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، بعد فترة طويلة من تأسيس عقيدة الأسبقية الدماغية.
ولكن المناقشات القائمة على عدم وجود أدلة هي من بين أكثر القصص التي تم الكشف عنها في تاريخ العلم، لأنه في غياب القيود الواقعية، فإن التحيزات الثقافية التي تؤثر على كل الأفكار (والتي يحاول العلماء بذلها بجدية إنكارها) تكمن مكشوفة تماماً.
في الواقع، أنتج القرن التاسع عشر عرضاً باهراً من مصدر سيثير، دون شك، مفاجأة معظم القراء- فريدريك إنجلز. كان إنجلز مهتماً جداً بالعلوم الطبيعية، وسعى إلى تأسيس فلسفته العامة حول المادية الديالكتيكية على أساس «إيجابي».
لم يكن يعيش ليكمل كتابه الخاص بالطبيعة، لكنه شمل تعليقات طويلة على العلوم في أطروحات، مثل: أنتي دوهيرينغ.
ففي عام 1876، كتب إنجلز مقالاً بعنوان «دور الفرد في الانتقال من القرد إلى الإنسان». وقد نُشر بعد وفاته في عام 1896، ولسوء الحظ، لم يكن له تأثير واضح على العلوم الغربية.
يعتبر إنجلز ثلاث سمات أساسية للتطور البشري: الكلام، حجم الدماغ، والوضع العمودي، وترتكز رؤية إنجلز على مبدأ رئيس وهام وهو: دور العمل الأساس في تطور الإنسان وانتقاله من كونه قرداً إلى حالته الحالية.
كان الخطوة الأولى في تحول هذه القرود واقرابها من الإنسان هو اتخاذها مشية عمودية وقلة الاعتماد على أيديها في المشي. هذا التحول كما يرى إنجلز قد حدث أولاً بتأثير من نمط حياة هذه القرود، الذي يتطلب أن تقوم الأيدي عند التسلق بوظائف مختلفة عن وظائف الأرجل. كان هذا التحول يعني أن تقوم بأعمال ذات نوعية مختلفة، حيث تستخدم لقطف ومسك الغذاء أو لبناء الأوكار في الأشجار… إلخ..
وبفضل هذا التحول بدأت اليد تكتسب مهارات كثيرة ومتنوعة. فالعمل الذي تقوم به اليد كان عاملاً في تطورها، كما أنها أيضاً كانت تقوم بتطوير هذه الأعمال التي تقوم بها، والتي بدورها تستدعي مهارات جديدة من اليد، وهكذا وخلال آلاف السنين وبفضل هذه العلاقة التبادلية وصلت اليد الإنسانية إلى ما هي عليه من تطور. فاليد ليست فقط أداة للعمل، إنما هي أيضاً نتاج لهذا العمل.
وحيث إن اليد هي جزء غير منفصل عن الجسد كله، فقد كان من الطبيعي أن يؤثر تطور اليد على باقي الجسد وأعضائهِ. فهناك بعض الأعضاء المرتبطة بأعضاء أخرى، وبالتالي يؤدي التطور في عضو إلى تطور في عضو آخر مرتبط به بشكل أو بآخر.
أما التطور الآخر والأهم الذي أحدثه تطور اليد فقد كان توسيع أفق الإنسان، كان العمل يطور الإنسان ويكتشف من خلاله يومياً خصائص جديدة للطبيعة، تطور بدورها من عمل الإنسان، وتفتح أمامه مجالات جديدة لتطور الإنسان أكثر وأكثر. تطور العمل أيضاً زاد من الصلات بين الإنسان (أو الإنسان في مراحل تطوره) وغيره من أشباهه، حيث أصبح من الممكن حدوث تعاون بينهم لأن تطور العمل جعل حدوث هذا التعاون مفيداً بشكل واضح. وهو الأمر الذي عمم النزعة الاجتماعية لدى الإنسان في مرحلته الأولى. ومن خلال ظهور أهمية التعاون المشترك بدأت تظهر الحاجة إلى وضرورة الحوار بين أشباه البشر هؤلاء، فقد خلقت الحاجة للتواصل بينهم وللتعبير عما يريدون فعله لتغيير شيئاً ما وليوصلوا للآخرين كيف يريدون منهم المساعدة في هذا العمل.
تطور العمل إذاً كان دافعاً لظهور وظيفة جديدة عند أجدادنا، وهو ما أدى لتحول حنجرة القرد البدائية وتطورها شيئاً فشيئاً حتى تستطيع أداء تلك الوظيفة، وتدريجياً تحولت حنجرة القرد من مرحلة إصدار همهمات وأصوات غير مفهومة إلى مرحلة الكلام.
تطور آخر هام في مرحلة التحول، كان تطور دماغ القرد إلى دماغ إنساني، كنتيجة للعمل وللنطق. أدى هذا التطور في الدماغ إلى تطور الحواس المتصلة كلها بالدماغ، بالإضافة إلى ما أدى إليه تطور النطق من تطور مقابل في عضو السمع، يظهر تميز تحليل إنجلز المادي الجدلي في رؤيته وتحليله للتأثير المتبادل للعمل والنطق على تطور الدماغ وبالعكس. أي: تطور الدماغ والحواس التابع له وللإرادة على العمل والنطق ودفعهما لبعضهما البعض حتى بعد انفصال الإنسان نهائياً عن القرد. فتعديل الإنسان في الطبيعة بعمله يؤثر بدوره في الإنسان ويدفعه للأمام ولمزيد من التغيير وهكذا. هذه الحركة الشاملة وهذا التعامل المتبادل الشامل بين الإنسان والطبيعة أمر حتمي لأن الإنسان في واقع الأمر جزء من هذه الطبيعة وليس منفصلاً عنها. هذا التفاعل المتبادل كان العمل هو مركزه وبالتالي كان هو الطريقة التي بها تحول القرد وتطور ليصبح إنساناً.
وكان من العوامل التي ساهمت في هذا التحول هو «التصرف الإنتراسي» الذي يميز الحيوانات كلها. بمعنى آخر استنفاذ مآكل المنطقة التي يعيش فيها، وإبادة الموارد الغذائية حتى يصبح من الحتمي بالنسبة للحيوانات أن تتكيف مع مأكلٍ جديدٍ غير المعتاد بالنسبة لها، حتى يكتسب دمها تركيباً كيميائياً جديداً، ويتغير بنيانها الجسدي، وهو ما كان خطوة في التحول الكيميائي للقرود إلى أناس. وفي هذا السياق كان للانتقال من التغذية النباتية إلى التغذية اللحمية أكبر الأثر، حيث تحتوي اللحوم على المواد الأساسية التي تحتاج إليها الأعضاء للتمثيل الغذائي في خلاياها. كذلك أمدت الدماغ بالمواد الضرورية لتغذيتها وتطورها بكميات أكثر مما مضى، مما سرّع بتطور الدماغ. تعلم الإنسان أيضاً- بالإضافة إلى أكل كل ما هو صالح- الحياة في كل الأجواء فانتشر في الأرض بما تحتويه من مناطق ذات طبائع مختلفة، وذات مناخ غير مستقر، وللحياة في مناطق ذات مناخ أبرد (حيث كان يعيش أساساً في المناطق الاستوائية.) هذا الانتقال خلق حاجات مختلفة، مثل: الحاجة إلى المسكن والملبس حتى يستطيع تحمل البرد والرطوبة. وجود مثل هذه الاحتياجات الجديدة بالتالي فتح فروعاً جديدة للعمل، وأوجد نشاطات جديدة ساهمت في توسيع المسافة بين الإنسان والحيوان.
مما سبق، يتضح لنا أن إنجلز يرى تطور الإنسان كنتاج لآلاف المهارات لليد والمزيد من النمو في حجم المخ. وفي كل مرحلة اليد الأمهر والتواصل الأكثر والمخ الأكبر يجعل من الممكن وجود أشكال أكثر تقدماً من العمل. أما عن الانتقادات التي وجهت لإنجلز فهي من أصحاب وجهة النظر المثالية، التي ترى أن تطور الإنسان لم يحدث بشكل تدريجي ناتج عن التفاعل بين الإنسان والطبيعة بل من خلال تغييرات في الجينات حدثت في شكل قفزات أدت إلى التحول البيولوجي للإنسان. وأن أسلوب الحياة البشري نتيجة لذلك قد ظهر في وقت متأخر من التاريخ كنتيجة لثورة بشرية أنتجت أولاً الحضارة واللغة.
وتتعدد الأسباب التي يعطيها أصحاب هذا الرأي من عدم إمكانية الوثوق بصحة الأدلة التي تم العثور عليها، إلى عدم وجود تطور كبير في الأدوات الحجرية. ولكن هذه الانتقادات في جوهرها لا تنفي صحة المنهج الذي استخدمه إنجلز– المادية التاريخية– في نفس الوقت الذي لا تقدّم فيه وجهة النظر الرافضة لإنجلز تفسيراً مقابلاً لكيفية حدوث هذه القفزات في تاريخ البشرية.
وبالتالي، فإن اليد ليست فقط جهاز العمل، بل هي أيضاً نتاج العمل. فقط من خلال العمل، من خلال التكيف مع العمليات الجديدة... من خلال التوظيف المتجدد دائماً لهذه التحسينات الموروثة في عمليات جديدة أكثر تعقيداً، فقد حققت اليد البشرية درجة عالية من الكمال التي مكنتها من استحضار صورة رافائيل، تماثيل ثوروادسين، موسيقى باغانيني.
وعندما كان البشر يتعلمون إتقان محيطهم المادي، يجادل إنجلز، وأضيفت مهارات أخرى للصيد البدائي- الزراعة والغزل والفخار والملاحة والفنون والعلوم والقانون والسياسة، وأخيراً، انعكاس رائع للأشياء البشرية في العقل البشري عندما تراكمت الثروة، استولت مجموعات صغيرة من البشر على السلطة وأجبرت الآخرين على العمل من أجلهم. العمل، مصدر كل الثروة والحافز الأساسي للتطور البشري، افترضوا نفس الوضع المتدني لأولئك الذين عملوا من أجل الحكام.
وبما أن الحكام يحكمون بإرادتهم (أي عن طريق مآثر ذهنية)، يبدو أن تصرفات الدماغ لها قوة دافعة خاصة بهم. لم تتبع مهنة الفلسفة أي مثال غير صحيح عن الحقيقة. اعتمد الفلاسفة على رعاية الدولة الدينية.
حتى لو لم يتآمر أفلاطون بشكل واعٍ لتعزيز امتيازات الحكام بفلسفة مجردة مفترضة، شجع صفه الخاص على التركيز على الفكر كدرجة أولى، والهيمنة، وكلها معاً أكثر أهمية من العمل الذي يشرف عليه.
كان تأثيرها خفيًاً ومفرطاً إلى درجة أنّه حتى العلماء الماديّون غير السياسيّين مثل: داروين كانوا تحت سيطرتهم، ويجب التعرف على التحيز قبل الطعن فيه.
وبدت الأسبقية الدماغية واضحة وطبيعية إلى درجة أنه تم قبولها على النحو المعطى، بدلاً من الاعتراف بها كحالة اجتماعية عميقة مرتبطة بالموقف الطبقي للمفكرين المحترفين ورعاتهم. يكتب انجلز:
نسبت كل مأثرة سرعة تطور الحضارة، واعتاد الناس أن يفسروا نشاطهم بتفكيرهم. بدلاً من أن يفسروا بحاجاتهم التي تنعكس مع ذلك بكل تأكيد في رؤوسهم فتصبح واعية. وهكذا نشأ مع الزمن هذا المفهوم المثالي عن العالم. الذي ساد العقول ولا سيما منذ انهيار العالم القديم. ولا يزال هذا المفهوم سائداً إلى حد أنّ أوفر علماء الطبيعة نزعة مادية من مدرسة داروين لا يستطيعون حتى الآن أن يكوِّنوا فكرة واضحة عن منشأ الإنسان. إذ أنهم بحكم التأثير الفكري له لا يرون الدور الذي اضطلع به العمل في هذا التطور.
إنّ أهمية مقال إنجلز لا تكمن في النتيجة السعيدة التي أكدت بها أسترالوبيثكس (القردة الجنوبية) نظرية محددة طرحها- عبر هيغيل- بل في تحليله الإدراكي للدور السياسي للعلم والتحيزات الاجتماعية التي يجب أن تؤثر على الفكر كله.
في الواقع، كان موضوع إنجلز لفصل الرأس واليد قد فعل الكثير لتحديد مسار العِلم عبر التاريخ. كان العِلم الأكاديمي، على وجه الخصوص، مقيَّداً بفكرة البحث «النقي»، الذي منع العلماء في الأيام السابقة من إجراء تجارب واسعة واختبارات تجريبية. عملت العلوم اليونانية القديمة تحت قيود أنّ المفكرين الأرستقراطيين لم يتمكنوا من أداء العمل اليدوي للفنانين العاميين.
عمل جراحو الحلاقة في العصور الوسطى الذين اضطروا للتعامل مع إصابات ساحة المعركة أكثر للمضي قدماً بممارسة الطب من الأطباء الأكاديميين الذين نادراً ما فحصوا المرضى، والذين استندوا في علاجهم على معرفة جالين والنصوص المكتسبة الأخرى.
وحتى اليوم، يميل الباحثون «البَحِتون» إلى الانتقاص من الناحية العملية، وتسمع مصطلحات، مثل: «المدرسة العجيّة» و«كلية البقرة» بتكرار مقلق في الأوساط الأكاديمية. إذا أخذنا رسالة إنجلز إلى القلب واعترفت بإيماننا بالتفوق المتأصل في البحث النقي على ما هو عليه- تحديداً التحامل الاجتماعي- عندئذ قد نكوّن- بين العلماء- الاتحاد بين النظرية والممارسة بأن العالم يتأرجح بشكل خطير قرب حافة الهاوية بالضرورة.
* ملاحظة المحررين: لم يقترح ماركس وإنجلز أنّ العمل كان مصدر كل الثروة، كما يقترح غولد هنا. بدلاً من ذلك، كما كتب ماركس في نقد برنامج غوتا: «العمل ليس مصدر كل الثروة. الطبيعة هي مصدر قيمته الاستعمالية (ومن المؤكد أن هذه الثروة المادية تتكون!) كعمل، وهذا بحد ذاته مجرد مظهر لقوة الطبيعة، قوة العمل البشري».